«حياتي في التحليل النفسي» لفرويد: سيغموند على الديوان

  • 2/19/2016
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

«يحق لي إذاً أن أقول، وأنا ألقي نظرة استرجاعية على النصيب من العمل الذي قيّض لي أن أؤديه في حياتي، إنني شققت طرقاً عدة وحفزت على أمور كثيرة يمكن أن تتمخض عن شيء ما في المستقبل. لكن، لا يسعني أنا نفسي أن أعرف سلفاً: هل سيكون هذا الشيء كثيراً أو ضئيلاً؟ ولكني أستطيع في المقابل، أن أعرب عن رجائي في أن أكون شققت أمام المعرفة الإنسانية الطريق الى تقدّم مهم». بهذه العبارات ختم سيغموند فرويد ذلك الكتاب الصغير الذي نشره في العام 1925، بالألمانية أول الأمر، في لايبزيغ، والذي كان - على الأرجح - الكتاب الوحيد الذي وضعه خلال تلك المرحلة من حياته كاستجابة لطلب ناشر. فالحال أن الكتاب وعنوانه «حياتي في التحليل النفسي»، أتى عبارة عن «سيرة ذاتية» صاغها فرويد تلبية لدعوة من ناشر كان يصدر في ذلك الحين سلسلة كتب تحت عنوان «راهن الطب من خلال السير الذاتية». ومع هذا، على رغم وضوح الهدف من السلسلة وتفضيل الناشر أن يركز الكاتب في نصّه، حقاً على سيرته الذاتية، فإن فرويد آثر، كما يقول جورج طرابيشي، مترجم النص الى العربية، أن «يقدم اللحظة الموضوعية على اللحظة الشخصية، فيولي الاعتبار الأول في سيرته للتحليل النفسي، لا لأحداث حياته». ومن ثم، يضيف طرابيشي: «فإن قارئ هذه الشهادة التي دوّنها واحد من كبار صانعي القرن العشرين، لن يقرأ وقائع حياته وتفاصيلها، بقدر ما سيقرأ قصة التحليل النفسي وتطور مفاهيمه الأساسية». > ومهما يكن من الأمر، فإن فرويد الذي يمهّد لنصه بصفحة توضيحية يختمها قائلاً: «بما أنني لا أود أن أناقض نفسي، ولا أن أسرف في تكرار ما سبق لي قوله، فسيكون لزاماً عليّ أن أحاول الوصول الى صيغة جديدة تجمع بين العرضين الذاتي والموضوعي، أي بين السيرة الذاتية والتاريخ»، فرويد هذا يبدأ منذ الفصل الأول بسرد وقائع ولادته - في فريبرغ بمورافيا التشيخية، العام 1856 - وانتقاله مع أسرته الى فيينا وهو في الرابعة من عمره، موضحاً لنا أنه كان الأول في صفوفه طوال سنوات دراسته الابتدائية السبع... وهكذا يروح فرويد في البداية واصفاً لنا تلك التفاصيل التي باتت معروفة حول دراسته وعلاقته بأبيه، وأول عهده بالجامعة والخيبة التي واتته هناك، إذ «كان لزاماً عليّ أن أشعر بأنني أدنى من الآخرين، ومنبوذ عن قوميتهم، لأنني يهودي». والمهم، أن المقام سيستقر بفرويد، مرة أخرى وبعد تجوال ودراسة في ألمانيا وفرنسا، اعتباراً من العام 1886، في فيينا حيث «تزوّجتُ من الفتاة التي أقامت على انتظاري أكثر من أربع سنوات في مدينة نائية». ومنذ ذلك الحين، يتضاءل اهتمام فرويد بسيرته الشخصية، ليصبح نصّه أشبه بسرد لتاريخ حركة التحليل النفسي التي بدأت تنمو على يديه، وتصبح جزءاً من الحركة الطبية في شكل عام. ولئن كان فرويد، بين 1886 و1891، قد استنكف عن نشر أية دراسة، إذ «كنت مأخوذاً بضرورات تثبيت مواقع قدمي في مهنتي الجديدة وتأمين وجودي المادي ومعيشة أسرتي الآخذة في التنامي بسرعة»، فإنه في العام 1891 نشر أول أبحاثه عن شلل الأطفال المخّي. وكانت في ذلك انطلاقته كمؤلف ومحاضر، وبداية شهرته المحلية ثم الأوروبية إثر ذلك، خصوصاً أنه تضلع في دراسة حالات الهستيريا وبدأ يكتب عن اكتشافاته متبعاً خطى الفرنسي شاركو، حتى وإن كان لا يزال مهتماً - في ذلك الحين - بالتنويم المغناطيسي كوسيلة للعلاج. > ويفيدنا فرويد هنا، بأن تلك المرحلة من حياته كانت هي التي مكّنته أبحاثه فيها من أن يربط الهستيريا بالمسألة الجنسية، «وما كنت أدرك، في ذلك الحين، أنني بردّي الهستيريا الى الجنسية، قد رجعت أدراجي الى أقدم أزمنة الطب، وجدّدت الصلة بتراث أفلاطون. وأنا ما فطنت الى ذلك إلا بعد مطالعتي مقالاً كتبه هافلوك إيليس في وقت لاحق». والحال أن هذه البدايات كانت هي التي مكّنت فرويد خلال السنوات اللاحقة، من التحرر من العديد من أفكاره القديمة وصولاً الى تركيز أفكاره حول التحليل النفسي، إذ غاص في مسائل مثل الكبت والحالات الجنسية لدى الأطفال. والطريف أن فرويد يفيدنا هنا، بأنه اقترف في ذلك الحين خطأ فظيعاً «كان قميناً بأن يرتد أثره سريعاً بأوخم العواقب على جهادي كلّه: فتحت تأثير الطريقة التي كنت أتبعها آنئذ، كان معظم مرضاي يستعيدون مشاهد من طفولتهم يدور موضوعها من حول إغواء شخص راشد لهم(...) وكنت أصدق هذه المعلومات، وتراءى لي من ثم أنني أكتشف، في هذه الإغواءات المبكرة، مصادر العصاب اللاحق(...) بيد أني حين اضطررت الى الإقرار بأن مشاهد الإغواء تلك لم تقع قط، وبأنها لم تكن سوى تخييلات لدى مرضاي، ربما أنا من فرضها عليهم، تخبّطت لحين من الزمن في الحيرة والبلبلة...». > وهكذا على هذا النحو، يواصل فرويد حديثه عن أخطائه واكتشافاته، في شكل تكاد فيه حياته الشخصية تختفي وراءه تماماً. وبهذه الطريقة يصل الى كشف ما توصّل إليه في شأن الليبيدو والأحلام والذهانات، كطبيب معالج... ولكن لاحقاً كمنظّر، خلال تلك الفترة التي تحوّل فيها الى رجل عام، ومؤسّس لتيارات وصار له تلاميذ وخصوم، وبدأ يشرف على المؤتمرات والأمميات التي تضم مدرسة فيينا وغيرها، ويقيم مؤتمرات صارت في ذلك الحين علامة أساسية من علامات افتتاح القرن العشرين. وهنا كان فرويد قد بلغ الثالثة والخمسين من عمره وأكثر، ومع هذا «كنت أشعر بالشباب والعافية»، حين زار الولايات المتحدة والتقى الفيلسوف ويليام جيمس الذي ترك لقاؤه معه تأثيراً دائماً فيه. وهنا يحدثنا فرويد - وبقسط كبير من الحيادية - عما أصاب حركة التحليل النفسي ودوره فيها، خلال السنوات التالية، لا سيما على يد تلميذين زميلين له، كانا قبل ذلك من أقرب علماء التحليل النفسي إليه فيروي: «وقعت في أوروبا، بين عامي 1911 و1913، حركتان انشقاقيتان عن التحليل النفسي، قادهما شخصان كانا لعبا الى ذلك الحين دوراً مرموقاً في العلم النفسي: ألفريد آدلر وكارل يونغ. وقد بدت هاتان الحركتان بالغتي الخطورة، وسرعان ما انضوى تحت لوائهما عدد كبير من الأشخاص. بيد أنهما ما كانتا تدينان بقوتهما لجوهرهما الخاص، بل لكونهما أفسحتا في المجال - وهذا أمر له إغراؤه - للتملّص من نتائج التحليل النفسي التي استشعر بعضهم أنها جارحة للمشاعر(...). وقد حاول يونغ أن ينتقل بالوقائع التحليلية الى صعيد التجريد اللاشخصي، من دون أن يقيم اعتباراً لتاريخ الفرد، آملا من وراء ذلك بأن يوفر على نفسه حتمية الاعتراف بالجنسية الطفلية وبعقدة أوديب (...). أما آدلر، فقد بدا أنه يشط الى أبعد من ذلك عن التحليل النفسي، إذ أنكر الجنسية دفعة واحدة، وأرجع تكوين الطبع والعصاب معاً الى علة وحيدة، وهي إرادة القوة (السلطة) لدى الناس وحاجتهم الى التعويض عن دونيّتهم...». > وإثر ذلك، في شيء من الاختصار، يقول لنا فرويد، كاستنتاج، أن تاريخ التحليل النفسي بالنسبة إليه ينقسم الى مرحلتين: في أولاهما، «كنت وحيداً وأتحمل عبء كل العمل المطلوب إنجازه (...)»، وفي المرحلة الثانية، والتي «تمتد منذ ذلك الحين (1907) الى يومنا الحاضر (1925)، ما انفكت مساهمات تلاميذي وأعواني تزداد أهمية بحيث يسعني اليوم، إذ ينذرني مرض خطير (سرطان الفك) بنهايتي الغريبة أن أفكر، في هدوء داخلي كبير، باحتمال توقيف نشاطي الخاص». > لكن سيغموند فرويد (1856 - 1939) واصل حياته لنحو عقد ونصف العقد من السنين بعد ذلك، كما أنه أعاد النظر في ذلك النص مرة أخرى في العام 1935. وهو في التذييل الذي كتبه عند ذاك، ذكّر القراء بأنه - على أية حال - كان أكثر صراحة «في بعض مؤلفاتي الأخرى، في الحديث عن حياتي الخاصة»، خاصّاً بالذكر كتباً مثل «تفسير الأحلام» و «علم نفس أمراض الحياة اليومية».

مشاركة :