يكتب فرويد في بداية بحثه القصير «مقدمة حول النرجسية» أن النرجسية مفهوم ينتمي إلى الوصف الإكلينيكي، وأن أول من استعمله هو الطبيب النفسي الألماني نيكل سنة 1899، من أجل وصف سلوك الفرد الذي يتعامل مع جسده الشخصي كما يتم عادة التعامل مع موضوع جنسي. إن ذلك يتضمن نوعاً من الوله والكلف بهذا الجسد. إن الأمر يتعلق بانحراف جنسي كما يقول، يجهز على الحياة الجنسية لصاحبه. أما فرويد فيلخص النرجسية في صفتين أساسيتين للشخصية وهما جنون العظمة وفقدان الصلة بالعالم الخارجي. على رغم أن هذه الصفة الأخيرة، ودائماً وفق فرويد، ليست حكراً على النرجسي فقط. يصرف الليبيدو وجهه إذن عن العالم الخارجي إلى الذات. إن النرجسية هي تضحية بالموضوع الجنسي، وقد نقول، في لغة فلسفية، بأنها تضحية بالعلاقة وما يتضمنه ذلك من غربة عن الواقع. وهو أمر سيؤكده يونغ أيضاً. ما أريد قوله عبر العودة إلى فرويد وإلى تحليل العلاقة بين النرجسية والسلطة، هو أن التحليل النفسي يقدم لنا إحدى إمكانات التأويل لهذه العلاقة، والتي يجب أن نأخذها بجدية في ثقافتنا العربية - الإسلامية، من دون أن يعني ذلك اختزالاً لظاهرة الديكتاتورية في هذا التأويل فحسب. فجينالوجيا الديكتاتور متعددة الرؤوس. لكن أهمية التحليل النفسي للديكتاتورية انطلاقاً من فرويد وآخرين، يكمن في أنه يعلمنا أن هذا الديكتاتور الذي نخافه ونرهبه والذي يقودنا من كارثة إلى أخرى، يسكن في أعماق كل فرد. كما أن النرجسية كأساس للعقلية الديكتاتورية تسكن في أعماق ثقافتنا وتنهل منها وتتماهى معها في اللاوعي. إنها حاضرة بداخلنا كأفراد وأسر ومؤسسات وأحزاب إلخ... إنها تسكن كل تلك الثقافات العاجزة عن الحب. إذ إن الحب يتضمن فعل خروج من الذات، ويؤسس للقاء بالعالم، تعبيراً عن الضعف الإنساني. إنه الضمان الوحيد ضد المرض، كما يكتب فرويد مستشهداً بهاينريش هاينه. إن النرجسي لا يحب، لأنه يطلب السيطرة، وهو ما يتجلى بوضوح في علاقته مع أطفاله مثلاً. فهو يريد عبرهم أن يحقق كل ما فشل في تحقيقه، وهو عبر ذلك يسرق حياتهم. إنه يطلب الخلود. إن ثقافة نرجسية أو ارتكاساً نرجسياً إلى الذات وتراثها، يضحي بلعبة الأجيال ويختزلها في عملية محاكاة مرضية، بحيث تصبح مهمة الجيل الجديد إعادة إنتاج القديم. إن حياته ذاكرة وتذكر. إن وظيفة الإبن في هذا المنطق أن يكون ما لم يستطع الأب أن يكونه. وبلغة أخرى، أن لا يكون نفسه. «سوف يعيش حتى يبلغ سناً كبيرة، بشرط ألا يعرف نفسه»، تقول العرافة لأم نرجس في الأسطورة. وتلخص في رأيي هذه الجملة، شخصية النرجسي، والثقافة النرجسية بامتياز. إن النرجسية، وفي مختلف أشكالها، الفردية والسياسية والثقافية، جهل الذات. يفتتح المحلل النفسي الألماني هانس يورغن فيرت كتابه: «النرجسية والسلطة: نحو تحليل نفسي للاضطربات الروحية في السياسة» بتحليل للوحة شهيرة عن نابوليون من إنجاز جان أوغست دومينيك أنغر عام 1806، تلخص في رأي فيرت العلاقة بين النرجسية والسلطة. إن اللوحة ترسم نابوليون في شكل كبير الآلهة الرومان جوبيتر. ويرى فيرت أن الأمر ليس غريباً، فكثيراً ما طلب الحكام رسمهم في صورة آلهة. وكثيراً ما تم التركيز على آلهة مثل أبولون أو هرقل أو مارس. لكن جوبيتر يمثل السلطة المطلقة. فبالنسبة إلى نابوليون لم تكن فرنسا ولا الثورة الفرنسية تعني ما هو أكثر من فرصة للوصول إلى سدة الحكم. سيحيط النرجسي وهو في طريقه إلى السلطة نفسه بحاشية معينة، حاشية لا تقول: «لا» البتة، كما يوضح كيرنبرغ، شخصيات منافقة وغبية ووصولية بجبن، من أجل تأكيد كلف النرجسي بذاته وتبرير ذلك. وهو ما سيحول دون قدرته على رؤية نفسه رؤية واقعية، وما سيدعم رؤيته الضيقة إلى العالم ويكسبها شرعية. ستقوم سياسة الديكتاتور على الصور النمطية ومنطق الأبيض والأسود وعلى الحقد على الأجانب والغرباء، حتى يحرف غضب الشعب عنه إلى الآخرين، وحتى يحرّر نفسه من صراعه الداخلي. لكن فيرت يؤكد أن هذا التزييف للواقع ينتهي غالباً بصاحبه إلى فشل ذريع، وإن تمكن أحياناً من تحقيق نجاحات كبيرة. ولا ريب في أن نظرة سطحية إلى التاريخ العربي الحديث من شأنها أن تؤكد ذلك بما لا يدعو إلى الشك، فإنجازات ما سمّي بثورة تموز (يوليو) انتهت إلى هزيمة حزيران (يونيو)، والقومجيات الأخرى «الممانعة»، تهاوت وتتهاوى مثل أكذوبة رخيصة. إن المشكلة في الديكتاتور النرجسي أن الأكاذيب التي تحيط به والتي يساهم هو بنفسه في إنتاجها وتصديقها، تخفي عنه واقع أنه لن يستطيع أن يحكم أبداً، وأنه لن يخلد، وأنه في نهاية المطاف إنسان مثل بقية البشر يجوع ويمرض ويموت. وقد يلجأ الديكتاتور الصغير إلى عمليات تجميل وصباغة للشعر وكل ما يمكن أن يظهره قويا في أعين أنصاره وشعبه، ولكنه من الداخل خرابة مظلمة وحزينة. وكلما زادت محاولات الديكتاتور الرامية إلى تقديمه كنظير للإله، كلما ازدادت عزلته. إنه أشبه بذلك الطفل الذي تحدث عنه المحلل النفسي هورست ابرهارد ريشتر في بداية كتابه الشهير «عقدة الإله»، ذلك الطفل الذي لم يعد يثق بوالديه، وهو ما تسبب له في خوف شديد. ومن أجل تجاوز هذا الخوف، كان على الطفل أن يسيطر على كل شيء، فيطور أوهام القوة حول شخصه، ومن هنا فصاعداً سيحصل طلاق بين سلوكياته وبين إمكاناته الحقيقية. فكما أوضح فروم: إن الحاكم النرجسي من نوعية هتلر أو ستالين يحاول في جنونه، أن ينكر وجود شيء اسمه الضعف الإنساني. محق فيرت لا ريب حين يؤكد أن لكل بلد، الساسة الذين يستحقهم. فكل فرد يتحمل مسؤولية المصير السياسي لبلده. وسيقوم عبر دراسة نماذج من السياسة الغربية، بتحليل العلاقة بين الباثولوجيا النفسية للأفراد والشروط الاجتماعية للسلطة وصراعات الهوية لدى الجماعات المرتبطة بها. إنه يحاول عبر التحليل النفسي ونظريات التحليل النفسي - الاجتماعي توضيع اشتغال اللاعقلانية في السياسة. كان لكتاب فرويد «سيكولوجية الحشود وتحليل الأنا» تأثير كبير في الفلسفة والعلوم الإنسانية، بل كان النص الأساسي الذي تولدت عنه نصوص أخرى مثل كتاب «الحشد الموحش» لدافيد ريزمان أو «الحشد والسلطة» لإلياس كانيتي. وعلى رغم أن فرويد لا يذكر إلا في الهامش السلطة ولا يتعرض إلا في ما ندر لشخصية القائد، إلا أن السلطة عموماً تظل حاضرة، وإن في شكل غير مباشر، في كتابه. إن الفكرة الأساسية لكتابه تتمثل في الآتي: إن نفسية الحشد تسعى إلى تماهٍ مع قائدها وتربط بينه وبين أناها الأعلى. إن الحشد مستعد لاتباع قائده حيثما يريد أن يقوده. وفعل التماهي هذا يحرر الحشد من القيم الأخلاقية والشعور بالذنب في شكل يجعله يعيش، ومن دون شعور بالقلق، وعيه الشقي ونزعاته العدائية. فباسم القائد يطلق الحشد عنان مشاعره البدائية. وفي انتقام الحاكم العربي من خصومه ومعارضية نقف على شخصية مرضية بامتياز، كان علينا أن نبعث بها وبالثقافة التي أنتجتها إلى سرير المحلل النفسي منذ زمن بعيد. لكن هل يشعر المريض بمرض الآخرين؟! إن تطرف الحاكم النرجسي لا يعود إلى نرجسيته، فكما ذكر فيرت من قبل، إن التحليل النفسي يتحدث أيضاً عن نرجسية صحية، وهي تلك التي لا تتطرف في تقدير الذات أو تحقيرها، وهو أمر لا يتحقق إلا لتلك الشخصية التي تمارس النقد الذاتي، من دون أن يعني هذا النقد أي انتقاصٍ من الذات. إنها شخصية منفتحة أيضاً على نقد الآخرين لها، وقد نضيف إلى تحليل فيرت بأنها شخصية قادرة ومقبلة على السخرية من ذاتها إذا استدعى الأمر ذلك، ومن جنون العظمة المتأصل في النوع البشري. إنها، وباختصار، شخصية في حاجة إلى الآخرين. وما يقوله التحليل النفسي عن الشخصية، قد نقوله عن الثقافة، إذ إن كل ثقافة تفصل نفسها عن الآخرين، من أجل الاكتفاء بذاتها، وتقول إن نصوصها المؤسسة تحمل جواباً لكل سؤال، وإنها نصوص عذراء، فوق النقد وفوق التاريخ، هي ثقافة تخترقها النرجسية وتحول دون اتصالها بالواقع، بل ودون إدراكها لنفسها وموقعها في التاريخ. وإذا كانت الخطاطة التي يقدمها لنا التحليل النفسي ثنائية، بحيث أنها تتنقل بين الشخصية والسلطة، وبلغة أخرى، بين الطفل والديكتاتور، فإن البعد الثالث الذي هو الثقافة من شأنه أن يسلط الضوء أكثر على اشتغال النرجسية في المجال السياسي، فالتربية التي يتلقاها الديكتاتور طفلاً، هي ابنة ثقافة متجذرة في أعماق اللاوعي الجمعي. إنها ابنة ثقافة مركزية، «قوية»، مكتفية بذاتها ومؤمنة بتفوقها... إن الديكتاتور عاجز عن رؤية التغير الإجتماعي، وهو غالباً آخر من يفهم مثل هذا التغيير، وغالباً حين ينتفض الحشد ضده، كما حدث مع ديكتاتوريي شرق أوروبا أو مع من هم أكثر منهم رداءة. يقدم هانس - يورغن فيرت تحليلاً لشخصيات سياسية معروفة، في معرض دراسته للعلاقة بين النرجسية والسلطة، وبينها شخصية الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوزوفيتش. ويبدو من خلال تحليل هذه الشخصية، قدرة التحليل النفسي على تقديم تفسير مقنع لظاهرة السلطوية. إن طفولة ميلوزوفيتش لم تكن عادية، هو الذي ولد في العام 1941، في ظل سيطرة النازية على بلده، لأب وضع حداً لحياته في العام 1962. سينشأ سلوبودان لدى أمه، التي كانت مدرسة وشيوعية متطرفة، صاحبة شخصية استبدادية، عنيفة. لم يذكر ميلوزوفيتش يوماً أباه، وظل يكبت في الأعماق واقعة انتحاره. إن التقاليد الصربية تسحب على الأب صفة القداسة، وانتحاره مثّل بالنسبة إليه فضيحة كبرى. لكن لما سيبلغ ميلوزفيتش سن الثلاثين، ستقدم أمه هذه المرة على الانتحار، وهو ما سيترك أثراً كبيراً في نفسيته. إن حياة ميلوزوفيتش زواج بين تجربة فقدان مؤلمة وجرعة كبيرة من التدمير. وحتى إذا خضعت الشخصية النرجسية للمعايير الأخلاقية، فإن ذلك لا يرتبط بقناعة شخصية بقدر ما يرتبط بخوفها من نتائج عدم الالتزام بذلك أو رغبتها في الحصول على اعتراف الآخرين. إن علاقة النرجسي بالآخرين تظل علاقة نفعية، لا تحكمها الأخلاق. والنرجسي إما ينظر إلى الآخرين باحتقار أو بتخوف. إننا أمام شخصية بارانوية. يستشهد فيرت بكيرنبرغ الذي يرى أن أسوأ الأمراض النفسية التي يمكنها أن تصيب قائداً سياسياً، هي تلك التي تجمع بين البارانويا والنرجسية، وهو ما يطلق عليه كيرنبرغ إسم النرجسية، وهو اختلال في الشخصية نلحظه خصوصاً لدى الحكام التوتاليتاريين، الذين كانوا يعتقدون بأن العنف والسادية هما الكفيلان بالحفاظ على سلطتهم. إنها شخصيات مرضية تطلب حب الآخرين وإعجابهم، وفي الوقت ذاته خضوعهم وخوفهم، ومثل هذه الشخصيات المرضية، لا يمكنها إلا أن تؤسس لنظام إرهابي، وأن تحيط نفسها بأتباع منبطحين في شكل مطلق، كما كان الحال مع هتلر وستالين. أربـــع حــروب خــــاسرة سيشعلها ميـــلوزوفيــتش، حروب دمــويـــة، وكان آخــر شـيء فــكر فيــه خــلالها هــــو صربـيا ومصيرها.
مشاركة :