رسالة أميركية قوية إلى إثيوبيا، من خلال تعليق جزء من المساعدات، مفادها أن الهدوء الذي كانت تبديه إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه أزمة سد النهضة لم يكن انسحابا من الوساطة ولا ضوءا أخضر لأديس أبابا لتفعل ما تريد.. لكن الرسالة الأميركية لا تقف عند إثيوبيا بل تمتد لتشمل آخرين ممّن كانوا يعتقدون أن واشنطن تتراجع في أفريقيا وتفتح الطريق أمام سيطرة قوى أخرى. عندما تريد دولة الحصول على نفوذ أو زيادة نفوذ في منطقة تلجأ إلى تقديم مساعدات لدولها، لكن الولايات المتحدة قامت بالعكس، حيث قامت رسميا، الأربعاء، بتعليق جزء من مساعداتها المالية لإثيوبيا، مؤقتا، “بسبب قرارها الأحادي ملء سد النهضة بدون اتفاق مع مصر والسودان”، ولم تحدد واشنطن المقدار أو مدة تعليقها. لكن مجلة “فورين بوليسي” أشارت إلى أن التقليص يصل لنحو 130 مليون دولار. ليس مهما المقدار أو المدة، فالمضمون السياسي الذي تنطوي عليه الخطوة قد يكون كبيرا، وربما يوحي أن الإدارة الأميركية الحالية ليست البطة العرجاء التي يتصورها البعض، والتي تعجز عن اتخاذ مواقف حاسمة أو تقوم بتحركات جادة تحفظ بها ماء وجهها، ولا تفرط في حلفائها التقليديين. هل كانت الولايات المتحدة بحاجة لأكثر من ستة أشهر لتتأكد أن إثيوبيا طعنتها في ظهرها عندما رفضت قبول مسودة اتفاق أعدته في واشنطن بشأن سد النهضة؟ بالطبع لم تكن واشنطن بحاجة لكل هذا الوقت، غير أن فشل وساطتها في هذا الملف يمكن أن يؤثر على دورها، ويقلل من مساحة الثقة فيها مستقبلا، ويؤثر على علاقتها بمصر التي عوّلت كثيرا عليها، ما يسيء إلى سمعتها في أفريقيا برمتها، لأن الحماس الذي دشنت به وساطتها في نوفمبر وحتى فبراير الماضيين، لا يتناسب مع النتيجة العقيمة التي وصلت إليها، ومع تزايد ملامح التأزم بين القاهرة وأديس أبابا. يقظة مفاجئة يبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترامب استفاقت أو استيقظت فجأة على أنها تشعر بقلق متزايد “حيال عدم إحراز تقدم في المفاوضات الرامية للتوصل إلى اتفاق ثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان حول ملء السد وإدارته”، معتبرة أن الملء في أثناء المفاوضات يقوّض ثقة الأطراف الأخرى في أديس أبابا التي اتهمت صراحة “بعدم الوفاء بالتزاماتها”، وهي تهمة خطيرة. هناك تعمد في رمي الكرة بملعب إثيوبيا، وتحمليها المسؤولية كاملة بلا مواربة، حيث عكس قرار التعليق عمق القلق من أن الشروع في ملء خزّان السد قبل اتخاذ كافة الإجراءات الأمنية ينطوي على “مخاطر جسيمة على سكان دول المصب”، بمعنى الاعتراف بوجود أضرار فعلية. واشنطن وضعت كرة من اللهب في حجر الحكومة الإثيوبية التي عليها أن تختار إما مواصلة تصلبها أو القيام باستدارة يشير التصرف الأميركي إلى أن واشنطن قد تستأنف وساطتها في هذا الملف، ومرجح أن تجري مباحثات مع الدول الثلاث لتسهيل الوصول إلى اتفاق عادل ومنصف يحقق توازناً بين الجميع، وقد لا تتوانى في استخدام “كل الأدوات المتاحة أمامها” للضغط على الدول الثلاث للوصول إلى اتفاق مرض، يعتمد على التنازلات المتبادلة. غضبت إثيوبيا بمجرد أن رشحت معلومات نشرتها “فورين بوليسي” الشهر الماضي، وأبدت انزعاجا ملحوظا من واشنطن، لأنها تعلم فحوى الخطوة، وجاءها الرد بأن تتحول التكهنات والتخمينات إلى واقع ملموس، ويُعلن رسميا تخفيض نسبة من المساعدات، ما يعني أن المسألة جادة وليست مناورة أو جس نبض. فهمت أديس أبابا خطأ أن واشنطن توافق ضمنيا على تعنتها، كما وصلت الرسالة ذاتها إلى كل من القاهرة والخرطوم، لأن الإدارة الأميركية بدت كأنها انسحبت في هدوء من الوساطة، ولا تجد الوقت الكافي لبذل المزيد من الجهود لمواصلة المسيرة. أحاطت إثيوبيا المفاوضات بمجموعة كبيرة من المحرمات والألغام الفنية والقانونية والأمنية والسياسية، ما جعل القاهرة تشك في وجود ما يشبه التواطؤ من قبل إدارة ترامب، أو عدم استعداد لممارسة ضغوط على أديس أبابا. خيوط متشابكة يرمي تعديل الموقف الأميركي إلى رغبة دفينة بعدم التفريط في نفوذها بمنطقة شرق أفريقيا، المرشحة لتصاعد حدة الخلافات، بعد أن أكدت إثيوبيا تمسكها بموقفها المناهض للرؤيتين المصرية والسودانية، وأصبحت وساطة الاتحاد الأفريقي في مهب الريح أو قاب قوسين أو أدنى من إعلان فشلها رسميا، ما يشي بحدوث سخونة سياسية قد تنلقب إلى التحرش بآخرين، وفتح الطريق لتدخل قوى كبرى، مثل الصين وروسيا. اتخذت واشنطن خطوتها الرمزية في أجواء ملبدة بغيوم انتخابات الرئاسة الأميركية، الأمر الذي تحاول إثيوبيا الاستفادة منه والانحناء لهذه الخطوة لتتجنب الصدام مع إدارة ترامب، في وقت تعاني فيه حكومتها من مشكلات داخلية، ويعد سد النهضة أحد أدوات كبحها، أما إذا تحول إلى سبب لزيادتها سيصبح الموقف غاية في الصعوبة. واشنطن قد تستأنف وساطتها في ملف سد النهضة واشنطن قد تستأنف وساطتها في ملف سد النهضة قدمت الإدارة الأميركية هدية سياسية لمصر، لا أحد يعلم هل هي مقصودة لذاتها في إطار الحفاظ على العلاقات معها كحليف إستراتيجي يتداخل معها في قضايا إقليمية عديدة، أم للحفاظ على ما تبقى من هيبة لواشنطن. في الحالتين يمكن أن تجني القاهرة ثمارا عدة، لأن الفرص المتاحة باتت ضيقة أمامها، فالاستمرار في المفاوضات بلا أفق عملية صعبة، والانسحاب منها واللجوء إلى خيارات خشنة أكثر صعوبة. حشر تخفيض المساعدات الأميركية الحكومة الإثيوبية في زاوية تدينها مباشرة بأنها أقدمت على خطوات أحادية غير قانونية، وتهدد الأمن والسلم الإقليمي، ما يتسق مع الخطاب المصري تماما الذي أعلن أكثر من مرة أن ما تقوم به أديس أبابا خطأ، ويخل بكثير من التوازنات في المنطقة، ويخلق سابقة غير معهودة في استغلال المياه. تستطيع القاهرة توظيف الموقف ودلالاته السياسية على طاولة المفاوضات التي أصبح مصيرها غامضا في العهدة الأفريقية، ونقلها إلى مربع آخر، أو فهم واستيعاب الرسالة من قبل الدولة التي ترأس الوساطة، جنوب أفريقيا، لتصحيح الأوضاع قبل انفراطها، وحث إثيوبيا على مراعاة كافة التحفظات المصرية والسودانية والتوصل إلى اتفاق عادل ومُلزم، خوفا من أن تجد نفسها في مأزق آخر، يتعلق بعودة المفاوضات إلى الرعاية الأميركية، أو تحريك الملف داخل مجلس الأمن الدولي. ضخّ تصرف واشنطن الدماء في عروق القاهرة، ومنحها مجموعة من الأوراق التي تؤكد رؤيتها، وتؤثر سلبا على موقف إثيوبيا، ولو اكتفت الإدارة الأميركية بخطوتها الرمزية حيالها، لأن الرسائل التي حواها تخفيض المساعدات مليئة بالمعاني، تستطيع مصر توظيفها بالطريقة التي تريدها، لجهة الوساطة الأفريقية الراهنة التي من المتوقع أن تقدم تقريرا وافيا عن دورها قريبا، من الضروري أن يراعي ما توصلت إليه واشنطن من قناعة، وما ظهر في تصرفها، لأنها لم تكتف بتقويض المساعدات، بل قدمت تفسيرات وتبريرات تسير في طريق مغاير لما تتبناه إثيوبيا ويلقى تعاطفا نسبيا من دولة الوساطة الأفريقية. إذا تجاوزت جنوب أفريقيا عن استيعاب الرسالة الأميركية، أو تجاهلت إثيوبيا ما انطوت عليه، تكون القاهرة امتلكت سندا سياسيا مهما يخولها الضغط عليهما بكل الوسائل، ويفرمل من اندفاعات بعض القوى الإقليمية والدولية نحو تأييد منطق أديس أبابا في عدم تأثير مشروع سد النهضة على الأمن، وأنه قضية فنية وكفى. يحق لمصر أن تحتفظ بعرض الملف على مجلس الأمن، وتخطي تحفظات الدول التي رأت أن مكانه في الاتحاد الأفريقي، ففي هذه الحالة على واشنطن أن تدافع عن وجهة نظرها، إذا صممت إثيوبيا على عدم الاكتراث، أو تنسحب وتكتفي بما قدمته لمصر من دعم سياسي يخول لها استخدامه في اللحظة التي تراها مناسبة. لم تخل حيثيات الموقف الأميركي من خشية واشنطن من استخدام مصر قبضتها الخشنة، عندما حوت مفردات من نوعية “مخاوف وقلق ومخاطر”، لدفع إثيوبيا للتراجع عن موقفها، فواشنطن لن تتدخل في هذه الحالة، وقد تعتبر كل تصرف مصري مشروعا. وضعت الإدارة الأميركية كرة من اللهب في حجر الحكومة الإثيوبية، وعلى الثانية أن تختار إما مواصلة تصلبها وتحمل ما ينتج عنه من تبعات، أو القيام باستدارة جوهرية سريعة وتعديل الدفة قبل أن يتصاعد تخفيض المساعدات ويصل لحد العقوبات.
مشاركة :