الجبهة البرلمانية ورقة تفاوض في جيب الغنوشي | مختار الدبابي | صحيفة العرب

  • 9/10/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يجري الحديث في تونس عن تكوين جبهة برلمانية (بين 120 و140 نائبا) وتضم حركة النهضة “وقلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” وعددا لافتا من المستقلين بهدف توحيد المواقف بشأن المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي، وكذلك ما يتعلق بانتخاب أو إعادة اختيار عناصر أو المشرفين على المؤسسات التعديلية مثل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، أو هيئة الانتخابات، أو هيئة مكافحة الفساد، خاصة أن بعضها لا يزال إلى الآن وقتيّا بسبب الخلاف السياسي والأيديولوجي على تركيبتها الذي يستمر منذ انتخابات المجلس التأسيسي في 2011. لكن، وبقطع النظر عن النتائج المباشرة لهذا التحالف والحسم بالقوة العددية في ملف مؤسسات تحتاج إلى توافق أوسع يكون رأي الخبراء هو الموجّه له، فإن الجبهة البرلمانية الجديدة ستكون في خدمة الإسلاميين، أي حركة النهضة وائتلاف الكرامة، في معركة ليّ الذراع مع رئيس الجمهورية قيس سعيد سواء ما تعلق بالمحكمة الدستورية التي ستسحب منه صلاحيات تأويل الدستور وتقيّد هامش المناورة لديه، أو ما تعلق ببناء مؤسسات تعديلية تفضي إلى تنفيذ خطط مناوئة له، خاصة في ما يتعلق بهيئة الإعلام السمعي والبصري. ورغم الرفض الواسع في قطاع الإعلام لمبادرة ائتلاف الكرامة بشأن “إصلاح الهايكا”، فإن وجود جبهة برلمانية قوية قد يفضي إلى تكوين هيئة جديدة على مزاج المنتصرين، واستفادة القنوات المغضوب عليها حاليا بسبب عدم تسوية وضعها القانوني والمالي مثل “نسمة” و”الزيتونة”، وهما قناتان واحدة تمثل ناطقا مباشرا باسم “قلب تونس” ومالكها هو رئيس الحزب نبيل القروي، الذي خاض الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بمواجهة قيس سعيد. وسيعني تشكيل “هايكا” جديدة وفق موازين القوى الحالية فسح المجال أمام قنوات وصحف وراديوهات عاملة لتوجه مكونات الجبهة البرلمانية بقطع النظر عن صلاحيات الهيئة التعديلية في مجال الإعلام وقدرتها على المراقبة والتوجيه، أي ظهور وسائل إعلام مسنودة يصعب مراقبتها وتوجيهها، وتصبح الهيئة مجرد تسمية استعراضية عن مؤسسة يفترض أن تكون مستقلة. نظريا، سيكون اختيار “الهايكا” الجديدة ديمقراطيا ومعبرا عن أغلبية برلمانية، لكنها ستظل مؤسسة فرض الأمر الواقع وستسقط في الاتهامات التي توجه الآن إلى “الهايكا” الحالية بشأن غياب الحياد والانحياز لنوعية من الإعلام على حساب نوعية أخرى. وبالنهاية ضرب التنوع الذي تتأسس عليه الديمقراطية. لكن الأكثر خطورة هو النظر إلى حرية تكوين المؤسسات الإعلامية بمنطق توفر شروط التأسيس، وهي شروط تقنية وشكلية لا تلقي بالا للمخاوف بشأن انفلات الإعلام وفسح المجال أمام وسائل متساهلة مع الفكر المتطرف وخادمة للإرهاب في استعادة لتجربة الترويكا برئاسة حركة النهضة (2012 – 2013) مع أنصار الشريعة، حين ساد اعتقاد بأن الحرية التامة تقلص شعبية المتطرفين وتعزلهم، لكن الخطأ القاتل أن تلك الحرية وفّرت لتلك الجماعات الوقت الكافي لهيكلة نفسها والتدرب على الأعمال القتالية وتهريب السلاح، ووضع البلاد في مواجهة دموية لا تزال تعاني من آثارها إلى اليوم. ومن المهمّ الإشارة إلى أن الجبهة البرلمانية الجديدة ليست نتاجا لرؤية براغماتية لمكوناتها، ولكن هي جبهة الضرورة التي دفعت تيارا مثل ائتلاف الكرامة الشعبوي الذي بنى حملته الانتخابية للبرلمان على حملة ضد التوافق والتقارب مع مجموعات المنظومة القديمة. واستفاد بشكل كبير من نقد أداء حركة النهضة في التوافق مع نداء تونس وتفرعاته، فضلا عن هجمة قوية على الفساد ونبيل القروي زعيم “قلب تونس”، لكنه يضع الآن اليد في اليد معه تحت مسوغات “التنسيق البرلماني” وهذا لا يعني التحالف. وهناك مبررات أبعد من مسوغ المغالبة وليّ الذراع مع رئيس الجمهورية، وهو شعور مختلف الأحزاب، وخاصة الأحزاب المحسوبة على الثورة بتراجع شعبيتها في مقابل صعود الحزب الدستوري الحرّ برئاسة عبير موسي، وهو حزب بدأ يتوسع على حساب أنصار “قلب تونس” والمجموعات المتحدرة من “نداء تونس” والمحسوبة على المنظومة القديمة. ويعترف أسامة الخليفي، رئيس كتلة “قلب تونس” بأن هذا التحالف سيؤثر على شعبية الحزب، حين يقول “بإمكاننا الانخراط في التهريج لنحافظ على رصيدنا الانتخابي (..)، لكن اخترنا تمشّيا آخر وهو أصعب كنا نعلم أنه سيكلفنا الكثير”. لكنه يميل دائما إلى نظرية المؤامرة في وصف من يتهمون “قلب تونس” بخيانة ناخبيه، معتبرا أن ذلك جزء من “خطة الاستهداف الممنهج” التي تطال الحزب بسبب “خيار التوافق”. ولأجل هذا سيكون هدف الجبهة البرلمانية الرئيسي تعديل القانون الانتخابي، وأساسا فرض عتبة 5 في المئة كشرط لدخول البرلمان بالنسبة إلى أي مجموعة أو حزب فائز، وهو ما يحد من فرص دخول المستقلين إلى المؤسسة التشريعية، كما يقطع الطريق على التحالفات العشائرية أو المهنية التي تتم محليا في الولايات (المحافظات)، ويصبح الطريق الوحيد إلى البرلمان هو الأحزاب القائمة. وتقول المؤشرات إن اعتماد عتبة 5 في المئة لن يسمح سوى بفوز مكونات الجبهة البرلمانية زائد الحزب الدستوري الحر وربما التيار الديمقراطي الذي يتراجع، وفق آخر استطلاع للرأي تحت وقع فشل تجربة حكومة إلياس الفخفاخ والاتهامات بالفساد وتضارب المصالح التي رافقتها مع أن تلك الحكومة قد تأسست على شعار مكافحة الفساد، وهو عنصر رئيسي ومحدد في هوية التيار الديمقراطي ولازمة شخصية في خطاب أمينه العام محمد عبو. وتهدف الجبهة البرلمانية بالأساس إلى تطويق خسائر الكتل الممثلة داخلها. فائتلاف الكرامة الذي زايد على خيارات النهضة واستفاد من غضب جمهورها على سياسة التوافق مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي يجد نفسه منتجا لتوافق هجين محكوم بالخوف والرغبة في الانتقام وفي تناقض مع شعاراته الشعبوية. والأمر نفسه لـ”قلب تونس” الذي كان ينتقد خيارات حركة “تحيا تونس” ورئيسها يوسف الشاهد الذي صعد إلى الواجهة بالتحالف مع النهضة في صراعه مع قائد السبسي ونجله حافظ. لكن، لا يمكن إغفال أن مهندس الجبهة البرلمانية الجديدة هو حركة النهضة المستفيد المباشر من الأهداف التي يمكن أن تتحقق، وخاصة توظيفها في مواجهة قيس سعيد والحد من سعيه لتوسيع صلاحياته من خلال تأويله للدستور لكونه أستاذا جامعيا متخصصا بالقانون الدستوري ويستفيد من غياب المحكمة الدستورية ليكون المؤوّل الوحيد للفصول الغامضة لدستور تتفاخر النهضة بأنها هندسته في 2014 ونجحت في تمريره. ورغم الضجيج الذي يحاط بهذه الجبهة، فإن فرص بقائها طويلا تبدو صعبة كونها مبنية على حسابات آنية يمكن أن تسقط بسرعة لو غيّرت النهضة، الفاعل الرئيسي فيها، من تكتيكاتها بالاقتراب من الرئيس سعيد ونجاحها في التهدئة معه، وهي تحتاج صداقته ووده في ضمان نفوذها على الحكومة أكثر مما تحتاج ائتلاف الكرامة أو “قلب تونس”. كما أن النهضة يمكن أن تعيد ترتيب علاقتها مع التيار الديمقراطي وحركة الشعب كنتيجة لتقاربها مع الرئيس سعيّد، وتوظيف الجبهة كورقة لتحسين شروط تفاوضها وربما تقفز من هذه الجبهة في سياق التنازلات المطلوبة للحصول على ما تريد. وبالنتيجة، فإن هذه الجبهة هي ورقة تفاوض في جيب راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في سياق تكتيكاته المعهودة للخروج من المآزق وعقد الصفقات.

مشاركة :