بدأ الفنان العالمي مارك روثكو (1903-1970) بالتصويرية فالتعبيرية التجريدية ثم التجريدية قبل أن يتحوّل إلى مقاربة فنية فلسفية، حيث كان يرفض الجمال في فنه بشكل راديكالي. فهل يمكن أن يكون الفن غير جميل؟ ولد مارك روثكو (واسمه الحقيقي ماركوس ياكوفليفيتش روثكوفيتش) عام 1903 في مدينة دفينسك، دوغافبليس بجمهورية لاتفيا حاليا، وكانت تابعة وقتها لروسيا القيصرية، حيث نشأ في أسرة يهودية متواضعة. بعد توالي اضطهاد اليهود في بداية القرن العشرين، هاجر أبوه الصيدلي وأخواه اللذان يكبرانه عام 1913 إلى بورتلاند بولاية أوريغون الأميركية، ثم لحق بهم هو وأمه وأخته، ولم يكن قد جاوز العشر سنوات. لم تمض سبعة أشهر على حلولهم في هذا البلد الغريب حتى توفي ربّ العائلة، فاضطر الأبناء للعمل لتأمين العيش. اشتغل الصبيّ مارك بائع جرائد، ثم عمل في مخزن عمه، في موازاة الدراسة وكان متفوّقا فيها، حتى حصل على منحة دراسية مكنته من الدخول إلى جامعة ييل. كان يتقن أربع لغات، ويهوى الموسيقى والأدب والفلسفة، وخاصة نصوص نيتشه والميثولوجيا الإغريقية، ولكنه انقطع عن الجامعة بعد سنة واحدة لعدم تجديد المنحة، في ظرف كانت فيه الولايات المتحدة تنغلق أمام الوافدين الجدد، ما اضطره إلى العمل نادلا وساعيا ثم مدرسا للرسم في مدرسة يهودية. المفارقة أن هذه الجامعة منحته شهادة فخرية.. بعد ذلك بستّ وأربعين سنة، أي بعد أن صار رساما مشهورا في الساحتين الأميركية والعالمية. مسار شائك عندما بلغ مارك روثكو العشرين من عمره انتقل إلى نيويورك، التي كانت تشهد حركة فنية مزدهرة، فبدأ مسيرته الفنية تحت إشراف أرشيل غوركي في مدرسة بارسنز الجديدة لفن الديزاين، وما لبث أن صار صديقا لأستاذه التكعيبي ماكس فيبر (غير عالم الاجتماع الألماني المعروف). وهناك بدأ يرسم أعمالا تصويرية وتعبيرية، فرسم مناظر طبيعية ومناظر داخلية ومشاهد مدينيّة وطبيعة ميتة وحتى بورتريهات، وتوصّل إلى إقامة معرض خاص عام 1935. كل لوحات روثكو "دون عنوان"، وهو اختيار منه كي لا يؤثّر على تأويل المتلقي ومدى تقبله لمنجزه الفني ولكنه أحسّ أنه لم يوفّق في نقل مشاعر المرأة التي اتخذها موديلا، ما دفعه إلى هجر التصويرية شيئا فشيئا ليدخل مرحلته الميثولوجية، حيث اتجه إلى رسم آلهة ووحوش مستوحاة في عمومها من قراءاته لنيتشه، وخاصة كتاب “مولد التراجيديا”، فقد كان على يقين بأن التراجيديا أساسية في التجربة الإنسانية، ومنذ ذلك التاريخ قرّر ألاّ يجعل عناوين للوحاته لكي لا يؤثر على تأويل المتلقي، فصار يطلق على لوحاته كلها “دون عنوان”. ذلك أنه قدّر أن فنّه وفن زملائه وصلا إلى طريق مسدود، ما جعله يتوقّف عن الرسم قرابة سنة، لينكب على صياغة مانيفستو يكاد يكون أسطوريا لدى نقاد الفن ومؤرخيه، ورغم أنه كان يمثل تأسيس التعبيرية التجريدية، فإن روثكو رفض الانضمام إلى تلك الحركة، لأنه كان يرى في التصنيف استلابا، فانفصل عن جاكسون بولّوك وطريقته في الرسم، مثلما أدار ظهره للفن الأميركي الوطني والمحلي برمّته، ليلتفت ناحية أوروبا حيث بدأت تجارب سلفادور دالي، وخوان ميرو، وفرنان ليجي وماكس إرنست، وبول كلي، وموندريان تكتسح العالم الجديد. بداية النجاح أعمال تشي بما في النفس البشرية من سوداوية أعمال تشي بما في النفس البشرية من سوداوية في العام 1938 صار مواطنا أميركيا بصفة رسمية، وفي العام 1940 بسّط اسمه وصار يعرف بمارك روثكو. في تلك الفترة، كان تجريديا بارزا، ولكن ليس في ثورية بولّوك، إذ اختار أن يبني هويته ببطء وتدرّج. ولم ينه تحوّله الفني ويتّخذ أخيرا الطابع الذي سوف يعرف به عبر العالم سوى عام 1949 حين أعجب أيما إعجاب بلوحة غوغان “الورشة الحمراء” بأشكالها المتعدّدة ومستطيلاتها ذات الألوان المفارقة والمتكاملة، وكانت قد عرضت في متحف الفن الحديث بنيويورك. ما بين 1950 و1957 دخل مرحلة وصفها بالكلاسيكية، وأنتج آثارا يتجلى فيها الجمال والمعاني الإنسانية بقوتها وزهدها، فقد كانت لوحاته الضخمة مسكونة بسلسلة من المستطيلات الخادعة ذات الأطر الغائمة، تزيد الأضواء والأصباغ في إبراز تنوعاتها الهندسية. هذه التجربة الجديدة في الرسم أطلق عليها الناقد كليمنت غرينبرك “الرسم في حقول اللون”، ذلك أن روثكو، إذ صار يعبّر فقط عن طريق اللون ولمسات ملغزة ومتردّدة، كان يدعو المتلقي إلى إتمام اللوحة لبلوغ بعد روحاني. وقد تعمّد عدم إطلاق عناوين على لوحاته، كما أسلفنا، لكي لا يوجّه المتلقي وتجربته الذاتية، بل كان هو نفسه يقف ساعات طِوالا أمام لوحاته لتأملها وسبر أبعادها ومغازيها. وقد بلغ به هوسه بالتأويل أن صار يرفض تأطير لوحاته. ذلك أنه لما ملّ لوحاته التجريدية، بدأ يرسم كتلا من الألوان، في أشكال خالية من التصويرية والرمزية، لكي يسهّل قدرات التأويل على كل فرد. وواصل على هذا الأسلوب أكثر من عشرين سنة، وقد دلّت دراسة أعماله من عام 1946 إلى عام 1970 أن عالمه ما انفكّ يسودّ، إذ كان يُضاعف من استخدام الأسود والرمادي، وهو ما عكس الأحداث التي عاشها في حياته، مثلما عكس حالته النفسية والصحية. فرغم ما كان يعانيه من تمدّد في الشريان الأبهر، لم يغيّر نمط حياته، وواصل الشرب والتدخين بشراهة، إلى أن عثر عليه مساعده صبيحة 25 فبراير 1970 طريح مطبخ مرسمه الكائن بشارع ماديسون بلا حراك والدم ينزف من معصميه. نهاية تراجيدية تنوعات هندسية بأضواء وأصباغ بارزة تنوعات هندسية بأضواء وأصباغ بارزة تساءل أهل الصناعة عن أسباب تلك النهاية التراجيدية لفنان ذاع صيته وحازت أعماله اعترافا عالميا، وذهبوا مذاهب شتى، غير أن أحد أقاربه، واسمه جون هارت فيشر، فسّر ذلك بقوله “سمعت تفاسير كثيرة: كقولهم إن صحته كانت متدهورة، وإنه لم ينتج شيئا طيلة ستة أشهر، وإنه كان منبوذا من طرف عالم الفن الذي حوّله ذوقه العابر نحو رسامين أقل منه سنّا وموهبة. قد يكون في هذا الكلام نصيبٌ من الصحة، ولكن الثابت أن غضبه المتأصل فيه هو من أهم الأسباب، غضب تجاه نفسه، وهو الذي كان يحسّ أنه منذور لتزيين المعابد، فإذا هو يرسم لوحات لا يُنظر إليها إلاّ كما يُنظر إلى بضائع تافهة”. وهذا الكلام يعني أن المجد الذي حازه روثكو لم يكن يلبي مطامحه، رغم أنه صرّح سابقا “أدركت أن وظيفة إنجاز لوحات ضخمة فيها شيء من التفخيم الفارغ. لذلك أقبلت على هذه اللوحات الصغرى. إنها حميمة وآدمية. أن ترسم لوحة صغيرة، معناه أن تقف خارج تجربتها، أن تنظر إلى تجربة من زاوية تشكل رؤية استيريوسكوبية أو زجاج مصغِّر. لأنك لو رسمت صورة أكبر، فسوف تكون داخلها”. ومن ثَمّ، كان يرفض أن يبيع لوحاته لمن يريد استعمالها لأغراض تزينية، وكان حين يعرضها يمتحن أولا ردة فعل شراتها المحتملين، إذ كان حريصا على أن يتأثّر الناس بابتكاراته دون الوقوع في اعتبارات جمالية محضة. صارت أعماله محاطة بهالات من الضوء، وإشعاع مخصوص ناجم عن طبقات لا تنتهي من الطلاء، رقيقة حد الشفافية. قبل وفاته دعا إلى بيته بعض أصدقائه، واستقبلهم في صالون تحفّ به لوحاته الأخيرة. تساءل بعضهم عن معنى زوال اللون فيها. لم يُجبهم روثكو، ولو فعل لقال لهم إنه قارئ نهم لكركيغارد ونيتشه، وما أعماله سوى صدى لما في النفس البشرية من سوداوية، تلك السوداوية التي رافقته منذ هجره بلدته في سن العاشرة، وعبوره الأراضي الأميركية الشاسعة بلا نقود ولا معرفة بلغة أهل البلاد، وإحساسه بالغبن حتى وفاته، فلا شيء ممّا حقّقه أشبع توقه إلى عالم روحاني متسام. دروس في الفن الفن عند روثكو تجربة في العوالم المحسوسة، ينبغي أن تدعو كل فرد إلى سبر الدواخل والتأمل والمناجاة الفن عند روثكو تجربة في العوالم المحسوسة، ينبغي أن تدعو كل فرد إلى سبر الدواخل والتأمل والمناجاة بعد وفاته بأعوام، وفي 1988 تحديدا، عثرت ماريون كاهان صدفة على مظروف مهمل في أحد مخازن نيويورك، يحتوي على وثائق كانت تظن أنها فُقدت إلى الأبد. وقد اعتبرت اختصاصية الأرشيف ذلك كنزا لأنه يضمّ حزمة من المخطوطات التي وضعها روثكو حين كان في الثلاثين من عمره، ولم يبلغ بعد مكانته المعروفة، بنية تأليف كتاب بعنوان “واقع الفنان”، أراده تأملا في الفن الغربي، وأهم التيارات الفنية من النهضة إلى السريالية، موجّها إلى الفنانين الشبّان. من دروسه مثلا أن الفن هو لغة طبيعية كالغناء أو الكلام، لذلك ينبغي الرسم كما يفعل الأطفال الذين كان يشاهدهم ويرافقهم أثناء تدريسه إياهم في بداياته، أي قبل أن يتجنّس ويصبح روثكو. أولئك الأطفال لهم أفكار، جيدة في أغلب الأوقات، يعبّرون عنها بحيوية وجمالية، على نحو يجعلنا نحسّ ما يحسّون. ما يعني ضرورة التحلي بالحقيقة والنزاهة فهما مفتاح النجاح. من دروسه أيضا أن الفن عنده تجربة، هي تجربة الفنان وعلاقته بالعالم، وبدل تصويره كما هو، ينبغي على الفنان أن يسعى لعيش التجربة وتسجيل ما يحسّه على القماشة، أي نقل ما لا يرى، ذلك أن روثكو يعتبر أن أهم فن تشكيلي هو ذاك الذي يعبّر عمّا نُفكّر أكثر ممّا يعبّر عمّا نُشاهد، فاللوحة، كتعبير بسيط للفكر المعقّد يمكن أن تنحصر في لونها أو شكلها. الفن تجربة في العوالم المحسوسة، ينبغي أن تدعو كل فرد إلى سبر الدواخل والتأمل والمناجاة. درس آخر عن الفن كحاجة أولية أكّد فيه أن الفن، بالنسبة إلى الفنان، هو حاجة بيولوجية ضرورية لصحة الفرد. وكما نحتاج إلى الأكل والشرب كي نعيش على هذه الأرض الفانية، فإن الفنان يحتاج إلى الخلق، لأن ممارسة الفن، كفعل اجتماعي، لا تستوجب تبريرا. الفنان يرسم لأنه ينبغي أن يرسم. درس رابع بيّن فيه أن الفن يعيش بالصداقة، إذ يتمطّط وينتعش في عيون الملاحظ المرهف الحسّ، ويموت كذلك، ومن ثَمّ فإن من غير المستحسن في رأيه نشر الفنان لوحاته عبر العالم، حتى لا يفاجأ بما لا يسرّ. وكان روثكو، أثناء عمليات التعليق، يدوّن توصياته في دفاتر يبيّن فيها كيفية التعليق حسب الأرضية، ولون الجدران، ومكان وضع الأضواء، لأن المحيط في رأيه يساهم بقدر كبير في التجربة الفنية، بنفس القدر الذي تساهم به الأعمال. لقد بدأ روثكو مسيرته الفنية في الثلاثينات بلوحات تصويرية، ورغم أنه كان رأس الحركة التعبيرية التجريدية، فإنه محا الصورة تدريجيا من سطح لوحاته، بوضع طبقات من الألوان، بعضها فوق بعض بالشكل الذي عرف به منذ نهاية الأربعينات. وفي تلك المستطيلات الشبيهة بنوافذ مفتوحة على مناظر طبيعية لا تُحَدّ، عديمة الأطر والعناوين، امّحى الأنا أيضا. لأن التعبير عن الذات مثير للسأم، لذلك ما انفك ينظر إلى العالم من زاوية التأمل، وليس الجمال، محاولا التعبير عن الإحساس بالتراجيدي الكوني.
مشاركة :