أميركي المولد، فرنسي التكوين، لندني الإقامة، ذلك هو جيمس أبوت مكنيل ويستلر، رسّام المشاهد الليلية، أدرجه النقاد ضمن الحركة الرمزية رغم قربه من الانطباعيين بسبب مقاربته الجمالية المتميزة، القائمة على تناسق رائع بين الظلال والأضواء، تلك التي أهلته كواحد من أعلام المنظر الطبيعي المعاصر. يعتبر جيمس أبوت مكنيل ويستلر (1834 – 1903) حالة خاصة في حركة الفن خلال القرن التاسع عشر، من حيث نشأته وحياته المتقلبة وفنه العصيّ عن التصنيف. تتلمذ على كوربي، وصاحب فانتان لاتور، وأحبه أغلب أعلام الأدب في ذلك الوقت، وأنتج أعمالا كثيرة بدا فيها متأثرا بعدة تيارات، إذ تنقل من واقعية كوربي إلى ضبابية وليم تورنر، ومن فن النقش والحفر الياباني إلى الرمزية فضلا عن “القَبْرافائيلية” (نظرية الرسّامين الإنجليز الذين أرادوا تجديد الرسم بتقليد الرّسامين الإيطاليين السابقين لرافائيل)، ما جعله يخفق في تحقيق مكانة مرموقة كانت في متناوله، فبقي مهمّشا في نظر مؤرخي الفن، ومنسيّا بعد وفاته، رغم أنه من أوائل المبشّرين بالتجريدية، ومن رواد الانطباعية الأميركية. كان يقول “ولدت حيثما يحلو لي”، وهو الذي تنقل منذ صغره ما بين مسقط رأسه وسان بطرسبورغ وباريس ولندن وميونخ وفينيسيا ومدريد وأمستردام. ذلك أنه رأى النور في بلدة لويل بولاية ماساشوست من أمّ أيرلندية وأب أميركي دعي لبناء خطوط سكك حديدية في بطرسبورغ بوصفه مهندس أشغال عامة، فاستقر مع أهله هناك، حيث التحق بأكاديمية الفنون الجميلة وتعلّم الفرنسية. انتقل إلى لندن عام 1848، ولكن لم تمض بضعة أشهر حتى توفي أبوه فعاد هو وأمه إلى بومفريت بولاية كونيتيكت فانخرط في الأكاديمية العسكرية بوست بوينت، غير أنه أخفق في مادة الكيمياء، فظل يقول بعد طرده منها عام 1854 “لو كان السيليسيوم غازا لأصبحت جنرالا”. بعدها سافر إلى باريس حيث انضم إلى ورشة شارل غلير، حيث تعرف على كلود مونيه، ورونوار، وألفريد سيسلي، وفريديريك بازيل، وكانوا هم أيضا يستعدون لمسابقة الدخول إلى مدرسة الفنون الجميلة، وسرعان ما نشأت علاقة بينه وبين ألفونس لوغرو وهنري فانتان لاتور، فقرّر ثلاثتهم تأسيس “عُصبة الثلاثة”. في باريس عاش عيشة بوهيمية، فكان يلجأ إلى متحفي اللوفر ولوكسمبورغ لنسخ لوحات لفرنسوا بوشي، وبيير منيار، وجان إنغر يتولى بيعها لبعض الأثرياء الأميركان، ليموّل أسفاره ورحلاته. في لاهاي مثلا اكتشف فرمير، فرسم لوحة “على البيانو” مستوحاة من أسلوب الرسام الهولندي الشهير، ورغم جودتها رفضها صالون 1859، ما دفعه إلى ترك باريس والتوجه إلى لندن، ظنا منه أنها تحتضن الفنانين الشبان. جيمس أبوت مكنيل ويستلر كان في فنه كما في حياته، لا يستقر على حال، الأمر الذي جعل فنه عصيا على التصنيف ولكن سرعان ما اكتشف أن العاصمة البريطانية يسطير عليها “القَبْرافائليون” برمزيتهم الطُّهرانية، فعاد أدراجه عام 1861 لينجز في باريس “الفتاة البيضاء” اللوحة التي كانت سببا في شهرته، وهي عبارة عن بورتريه لامرأة شابة صهباء الشعر، بيضاء الفستان، تقف على جلد ذئب أبيض في خلفية بيضاء. ولكنها لم تحز هي أيضا استحسان صالون 1863، فقام بعرضها في “صالون المرفوضين” بجانب لوحات لسيزان، وبيسّارو، وإدوار ماني، وكان ذلك تتويجا بالنسبة إليه، ودافعا للمزيد من الإبداع، حيث مضى يرسم لوحات يابانية المنحى (خزف، مراوح، كيمونو جايشا على البلكونة)، ويخلد اسمه جنب ماني وبودلير في لوحة لصديقه فانان لاتور، وينجز لوحتي “سيمفونية بالأبيض رقم 2”، ثم “سيمفونية بالأبيض رقم 3”، وكان البياض هنا أيضا يؤثّث اللوحتين على غرار “الفتاة البيضاء”، حيث القوام الممشوق والوجه الفاتن والشعر المنساب في فوضى واليد الرفيعة والنظرة الهاربة. كان ويتسلر موهوبا، ولكنه كان ميالا إلى استيحاء أعماله من أعلام آخرين، فعندما اكتشف الفن الإسباني وخاصة دييغو فيلاثكيث، تأثّر به ولاسيما في البروتريهات التي يطغى عليها اللون الأسود. وعندما التحق بكوربي في تروفيل رسم أعمالا تجلت فيها انعكاسات البحر الفضية والمطر وشسوع المناظر الطبيعية، وطريقته في استخدام الضوء، رغم أنه لم يكن يشتغل على “الموتيف”، لأنه كان يعتقد، خلافا للانطباعيين، بأن الرسم في الهواء الطلق، ينبغي أن ينجزها الفنان داخل مرسمه، وعندما عاد إلى الإقامة في تشيلسي قرب نهر التايمز، مضى في رسم سلسلة من المناظر الليلية تخالف سيرته الأولى، لوحات عن ضفاف النهر في ليل معتم، وألوان حامية متأتية من الظلمة، وشخصيات غير واقعية، هاربة كأنها أشباح في الضباب، وقد وصفها الأديب هويزمان بأنها “مناظر حلم”. وعندما سافر إلى فينيسيا، أنجز سلسلة رائعة من نوع الرسم المطبوع. أي أنه في فنه كما في حياته، لم يستقر على حال، فقد كان وجها من وجوه باريس البارزة في ذلك الوقت، أبهر رجال الأدب البارزين، مثل مارلامي الذي قال عنه “رجل نادر، أمير شيء ما، فنان بالتأكيد”، أو الشاعر روبير دو مونتسكيو الذي تحدّث عن “إبداعات الإله ويستلر”، أو بروست الذي وصفه بأستاذ الجمال واستوحى منه شخصية إلستير أحد أبطال روايته الشهيرة “في البحث عن الزمن الضائع”. ولكنه كان أيضا ذا طبع حام، لا ينفك يفسد علاقاته بأصدقائه، يستحلي مثل بودلير “فن خلق أعداء له”.
مشاركة :