رحيل نجم الفن الزائل الذي جعل للمعالم هويات مغايرة | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 6/12/2020
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

في الليلة الفاصلة بين 31 مايو و1 يونيو 2020، رحل الفنان الأميركي من أصل بلغاري كريستو عن سنّ تناهز الخامسة والثمانين، في وقت كان مركز بومبيدو بباريس قد أعد له معرضا استعاديا يفتتح بداية من منتصف شهر مارس، ثم تحوّل بسبب الحجر الصحي إلى معرض تكريم لروحه ولفنه في مستهل شهر يوليو القادم. ولد كريستو فلاديميروف جافاتشيف الشهير بكريستو في غابروفو ببلغاريا عام 1935، في أسرة عانت من النظام الشيوعي منذ الأربعينات. بدأ تكوينه الفني في معهد الفنون الجميلة بالعاصمة صوفيا، حيث درس الرسم والنحت والهندسة حتى نهاية 1956، دون أن يحصل على دبلوم، لأن الشهادات كانت تمنح لأنصار الحزب الشيوعي الحاكم وحدهم، ولم يكن من بينهم، فقد عرف عنه ميله إلى رسم لوحات تتناقض مع الواقعية الاشتراكية التي تفرض تناول المواضيع من وجهة نظر ماركسية لينينية. فلما صار محط ملاحقة وتضييق، فرّ إلى فيينا، حيث بقي سنتين قبل أن يهاجر إلى باريس عام 1958. في عاصمة الأنوار، كان يكسب رزقه برسم بورتريهات زيتية يوقعها باسم العائلة جافاتشيف. أعمال عملاقة "جدار براميل النفط" في باريس (1962) "جدار براميل النفط" في باريس (1962) ذات مرة، وهو يسلّم بورتريه زوجة الجنرال جاك غييّبون، مدير مدرسة البولتكنيك بباريس، تعّرف على ابنتهما جان كلود (1935 – 2009) وكانت متزوجة، فنشأت بينهما علاقة انتهت بأن انفصلت جان كلود عن زوجها وتزوجت كريستو عام 1959. وفي تلك الفترة كان كريستو يخالط فناني الواقعية الجديدة، لاسيما أولئك الذين يفضلون إنجاز أعمال استعراضية بحضور الجمهور، مستعملين عناصر مجتمع الاستهلاك الناهض، كما بينا في مقالة سابقة، ثم انضم إليهم عام 1963، قبل أن يغادر باريس نهائيا رفقة زوجته ليستقرا في نيويورك بداية من عام 1964، ويعتنقا الجنسية الأميركية. هناك بدأ الزوجان بإنجاز أعمال ضخمة عبر العالم يظهر في كل منها اسماهما أي كريستو وجان كلود، ولم يواصل بمفرده إلاّ بعد وفاة زوجته عام 2009، فقد ظلا متلازمين تلازما لصيقا، ويقال إنهما ولدا في يوم واحد، 13 يونيو 1935، هو في بلغاريا، وهي في المغرب. في حي سوهو بنيويورك، جعل الزوجان بيتهما سكنا وورشة ومقرّا رئيسيا لمشاريعهما طيلة أكثر من نصف قرن، حيث يقوم كريستو بإعداد الماكيت والرسوم ثم تتولّى جان كلود الإشراف على عملية الإنجاز، مثلما تتولّى دور الناطق باسم الثنائي والدفاع عن المشاريع التي تستوجب أحيانا حنكة ولباقة ودراية بالقوانين أمام المسؤولين في شتى المؤسّسات التي تعاملا معها كرؤساء البلديات ومحافظي المعالم التراثية وحتى البرلمانيين، لإقناعهم بمشاريع ضخمة، سرعان ما تُزال، لا جدوى من ورائها ولا غاية منها غير إحداث الدهشة وإمتاع الأنظار لأسبوعين أو ثلاثة. امتدادا لرؤية الواقعيين الجدد في إنجاز أعمال استعراضية أمام الجمهور، ترك كريستو فن البورتريه وجنح إلى تغليف موديلاته بشتى أنواع الأغلفة وكأنها بضائع. ثم كان عام 1969 بداية انتقاله إلى المشاريع الضخمة حيث قام بتغطية نحو خمسة عشر كيلومترا من السواحل الأسترالية بالأقمشة المشمّعة، ولما سئل عن الغاية من وراء ذلك أجاب “كل مشاريعي تزخر بالمعاني حتى أني لا أجد الوقت للتفكير فيها. هذا ليس من طبيعة عملي”. تجسيدا لرغبة كريستو.. فرنسا تسعى إلى تغليف قوس النصر في 2021 تجسيدا لرغبة كريستو.. فرنسا تسعى إلى تغليف قوس النصر في 2021 ومنذ ذلك التاريخ وهما يتعاونان على إنجاز مشاريع عملاقة استوجبت أكثر من خمسين ألف متر مربّع من أقمشة البوليستر ونحو عشرين كيلومترا من الحبال وحوالي ثمانية آلاف بوابة ومئة وثمانين شجرة وثلاثة عشر ألف برميل نفط، وأكثر من ستين مليون دولار. فقد بسطا بعد السواحل الأسترالية ستارا برتقاليا في ولاية كولورادو عام 1972، وأقاما أربعين كيلومترا من الحواجز الملتوية شمال سان فرنسيسكو عام 1976، وطوّقا جزر خليج بيسكين بميامي عام 1983، وغلّفا أقدم جسر في باريس هو “لو بون نوف” (الجسر الجديد) عام 1985، وكذلك مبنى الرايخستاغ في برلين عام 1995، مثلما وضعا آلاف السقائف الزعفرانية في سنترال بارك بنيو يورك عام 2005. فهما يستعملان الكوابل والأنسجة والهياكل المعدنية، مثلما ينوّعان الألوان كالبوليبروبيلين في لون زهرة الفوشيا، والبوليستر الأمغر أو الفضي، لخلق أعمال عرضية لا تدوم أكثر من أسبوعين أو ثلاثة. ذلك أن فنّهما يختص بتغليف الأماكن والمباني والمعالم والحدائق العامة والمناظر الطبيعية، ما يجعله قريبا من الـ”آرت لاند” (فنّ الأرض) خاصة أعمالهما الأولى، لكبر حجمها ووجودها خارج فضاءات الفن المعتادة، كالأروقة والمتاحف والورش. ولكن كريستو يرفض هذا التصنيف، ويخير الحديث عن “فن بيئي” تحتل القماشة عنصره المشترك، لأنها هي التي تجعل الأعمال حية، حين تتموّج عند هبوب الريح، وهذا ما يعكس الجانب المترحّل في المشروع، لأن الأثر لا يكون مجسّدا إلاّ لبضعة أيام، على غرار خيام البدو. هيبة جديدة من النادر أن نجد فنانا يخصّص من الوقت لإعداد عمل فني زائل، مثل منحوتة على الرمل، كما يفعل كريستو وزوجته جان كلود من النادر أن نجد فنانا يخصّص من الوقت لإعداد عمل فني زائل، مثل منحوتة على الرمل، كما يفعل كريستو وزوجته جان كلود تقوم مقاربة هذا الثنائي على تغيير وجهة نظر الجمهور إلى الفضاء، الذي يتحوّل إلى عمل فني، فالمَعلم المغلَّف يأخذ شكلا مغايرا لشكله الأصلي، وهوية مغايرة، وهيبة جديدة. يقول كريستو “مشاريعنا ليست تصويرا للأشياء مثل معظم الأعمال اليوم. هي أشياء حقيقية، لا توجد كأدوات بل كمواضيع. هي موجودة ولكنها مطبوعة بزمنية مدهشة، إذ يستغرق إعدادها وإنجازها عدة سنوات، ولكن بقاءها لا يتعدّى خمسة عشر يوما، ولا يتبقّى منها غير الرسوم والأفلام والصور الشمسية. هذه الهشاشة هي من صميم عملنا”. تلك الرسوم، الشبيهة برسوم مهندس معماري، هي التي كانت تضمن لكريستو وزوجته عيشة الرفاه التي يعيشانها، حيث يتخاطفها هواة جمع الأشياء النادرة بآلاف الدولارات، في مزادات علنية تبلغ قيمة أقل قطعة معروضة فيها نحو نصف مليون دولار. Centre Pompidou ✔ @CentrePompidou C’est avec une vive émotion et une immense tristesse que nous apprenons la disparition de Christo avec qui nous avions passionnément travaillé pour l’exposition « Christo et Jeanne-Claude, Paris ! ». Elle ouvrira le 1er juillet et rendra hommage à son œuvre exceptionnelle. View image on Twitter 1,769 10:21 PM - May 31, 2020 Twitter Ads info and privacy 871 people are talking about this حتى أن بعض النقاد وصفوا كريستو بأنه مهندس ومقاول قبل كل شيء (رغم أنه لا يملك أي دبلوم في الهندسة المدنية) ينجز مشاريع تقنية، مستعينا بفريق متكامل ومعدات لوجستية ضخمة، ويقضي أعواما طويلة في البحث والتقصّي والتفاوض، فما كل مشروع يقبل، وما كلّ مفاوضة تنتهي باتفاق، بل إن بعض الاتفاقات التي استمر العمل فيها أعواما طوالا، وقع العدول عنها في آخر لحظة، كما حصل لمشروع فوق نهر الأركنساس حين تخلّى عنه كريستو عام 2017 احتجاجا على انتخاب دونالد ترامب، وينسون أن ذلك كله من صميم فنه، فمن النادر أن نجد فنانا يخصّص من الوقت لإعداد عمل فني كما يفعل كريستو وزوجته، وقلّ أن نعثر على من يبذل كل ذلك الجهد لأجل عمل زائل، مثل منحوتة على الرمل. وبعد الأرصفة العائمة على بحيرة إيزيو الإيطالية عام 2016، ومصطبة هايد بارك بلندن عام 2018، كان كريستو يستعد لتحقيق حلم راوده منذ الستينات: أن يغلّف قوس النصر بباريس، وقد تمّ إعداد هذا المشروع منذ سنوات، مثلما وقعت برمجة إنجازه في سبتمبر المقبل، ولكن الموت كان راصدا له. ورغم ذلك لم يُلغَ المشروع بل أرجئ إلى خريف العام المقبل، حسبما أكّده فيليب بولافال، رئيس مركز المعالم الوطنية. توفي كريستو بينما كان مركز بومبيدو للفن المعاصر قد برمج معرضا استعاديا عن مرحلته الباريسية (1958 – 1964) ومشروعه الأشدّ رسوخا في ذاكرة الباريسيين وهو تغليفه جسر “لو بون نوف”. أي أن كريستو لن يحضر هذا المعرض، وربّما سعد بذلك في قبره وهو القائل “لا أحبّ المعارض الاستعادية، أحب أن أفعل دائما أشياء جديدة. الاستعاديات، دعوها حين أموت!”.

مشاركة :