يجمع الخبراء والمختصون في علم الاجتماع على أن الحياة الجامعية مختلفة إلى حدّ كبير عن تجربة التعليم عن بعد، التي رغم المزايا التي تحملها، إلا أنها تفقد طلاب الجامعة أهم تجربة في حياتهم بعد المدرسة وتجبرهم على اكتساب مهارات جديدة لمواكبة الحياة والظروف بمختلف تعقيداتها. تونس - حتى أيام قليلة، قبل إعلان المجلس الأعلى للجامعات في مصر عن برنامج عودة الدراسة إلى الجامعات كانت إسراء تخشى أن يتم تطبيق نظام التعليم عن بعد في الجامعات المصرية وحرمانها من فرص الخروج القليلة من المنزل والمتاحة لها فقط من أجل الدراسة. وبقي الطلاب لشهور عديدة يستعدون لخوض تجربة التعليم عن بعد في الجامعات بعد أن فرض فايروس كورونا شروطه على العام الدراسي الموسم الماضي، وهو ليس الخيار المفضل للطلاب الذين يعتبرون الحياة الجامعية أكثر من مجرد دراسة لمنهج تعليمي واختصاص يخولهم الدخول إلى سوق العمل. وتترقب إسراء بفارغ الصبر العودة إلى الدراسة الجامعية في السابع عشر من الشهر القادم، بعد أيام طويلة مملة وقاتلة قضتها بين جدران منزلها، ليس بسبب الحجر المنزلي والظروف التي فرضها فايروس كورونا، بل إن هذا الواقع الطارئ على دول العالم بمثابة روتين يومي بالنسبة لإسراء لا يكسره سوى ذهابها إلى الجامعة لمتابعة دروسها في كلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر، المجال الوحيد الذي قبل أهلها به بعد أن نالت الثانوية العامة بمعدل مرتفع. وإسراء ليست الوحيدة من بين الطلاب العرب التي تفضل متابعة الدروس بشكل حضوري في الجامعة وليس عن بعد، مع اختلاف الأسباب بين طالب وآخر. طلاب اشتكوا من المحيط الأسري الذي يشكل عائقا أمام عملية التعليم عن بعد ويشتت الانتباه ولا يسمح بالتركيز ويقول عبدالمجيد الطالب المغربي في تقنية المعلومات، إنه “لا يمكن لأي وسيلة أن تعوّض التعليم الحضوري. فالتفاعل مع الأستاذ ومع مختلف أنماط الشخصيات من زملاء الدراسة هو التكوين الحقيقي لشخصية الشباب. أما التعليم عن بعد فهو أداة مساعدة ناقصة لا غير". ويأتي رأي عبدالمجيد ردا على نتائج دراسة جامعية بعنوان “التعليم عن بعد في المغرب: دراسة حول مدى رضا طلبة جامعة محمد الخامس بالرباط”، خلصت إلى أن 47.30 في المئة من الطلاب المُستجوبين يفضلون التعليم الحضوري، بينما أشار 40 في المئة من المشاركين في الدراسة إلى أهمية استغلال السياق الراهن لتدعيم التعليم عن بعد، مفسّرين ذلك بالحاجة المتزايدة لدى الطلاب إلى نموذج تعليمي يمزج بين التكوين الافتراضي والحضوري معا. وشددت الدراسة على أن الدمج بين التدريس الحضوري والإلكتروني، إلى جانب اعتماد استراتيجية تعليمية تفاعلية يواكب عبرها الأستاذ طلبته، من شأنه أن يشجع الطلاب ويساعدهم على تحمل مسؤولية التعلّم، موردة أن التعليم المُدمج يفرض نفسه على الجامعة المغربية مستقبلا. ولفتت الدراسة، التي أعدّها كل من نعيمة بوفراس، أستاذة باحثة في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وعبدالكريم علمي، أستاذ باحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، إلى أن ما تم القيام به راهنا يتمثل في تحويل مضامين التعليم التقليدي باتجاه التعليم الإلكتروني، وقالت إن 74.70 في المئة من الطلاب شاركوا في الأعمال البحثية عبر مؤتمرات الفيديو، مؤكدة أن التعليم عن بعد يُدعم مسارات التدريس الشخصية بسهولة مقارنة مع التعليم الكلاسيكي، لاسيما ما يتعلق بالإشراف على الأعمال البحثية (المحاضرات، بحوث التخرج..). الجامعة المتنفس الوحيد للفتيات أحيانا الجامعة المتنفس الوحيد للفتيات أحيانا لكن الدراسة تناولت جانبا واحدا من حياة الشباب الجامعية المتعلق بتلقي العلم، في حين أن الحياة الاجتماعية والتواصل بين الطلاب يتوفران على جوانب أخرى لا تقل أهمية عن التعليم. فالحياة الجامعية تعد من أهم مراحل الحياة لدى الطالب الجامعي لأنها تساهم في بناء شخصيته من مختلف الجوانب بدرجة كبيرة وتعتبر نموذجا مصغرا لحياته في المجتمع. والحياة الجامعية هي الخطوة الأولى للحياة الجديدة، وتجبر الطالب على اكتساب مهارات جديدة لمواكبة الحياة والظروف إن كانت قاسية أو جميلة، حيث تفرض الاعتماد على النفس، وأخذ القرارات الفردية أو الجامعية، وتعرف قدرات وإمكانيات الطلاب الفردية، والتخطيط للمشوار الدراسي بمعايير تناسب الطالب وحده. وتقول الطالبة نور تخصص هندسة في سنتها الدراسية الثانية بجامعة الرباط، إن "الحياة الجامعية تشكل محور تحول من الحياة الروتينية المعتادة إلى حياة مستقلة لها كيانها الخاص. وتصقل شخصية الفرد، وهذا ما يفتقده التعليم عن بعد". وتضيف أن "الحياة الجامعية مرحلة من مراحل العمر التي يمر بها الطالب في حياته وأنا أعتبرها من أجمل مراحل حياتي. فهي تعوّد الطالب على الاعتماد على نفسه بشكل أكبر واتخاذ قراراته وتهيئه لتحمل المسؤولية". وبدوره، أنجز الدكتور حسن بلحياح، أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، خلال فترة الحجر الصحي، دراسة تهدف إلى تقييم تجربة التعليم عن بعد في الوسط الجامعي المغربي. التفاعل مع الأستاذ المحاضر ومع مختلف أنماط الشخصيات من زملاء الدراسة هو التكوين الحقيقي لشخصية الشباب وخلصت الدراسة إلى أن الطلاب ركزوا على ثلاث نقاط إيجابية للتعليم عن بعد أولها تنمية المهارات الذاتية، حيث أكد مجموعة من الطلبة أن التعليم عن بعد يساعدهم على تعزيز الثقة بالنفس وتدبير الوقت للتكيف مع كم الدروس والواجبات اليومية، بالإضافة إلى أنه يمكنهم من الاعتماد على الذات في دراسة وفهم المحتويات بدل الاعتماد الكلي على الأستاذ. أما الميزة الثانية التي وجدها بعض الطلاب فتتمثل في التعاون والتآزر واعتبروها سمة بارزة في تجربتهم، إذ أن هناك تواصلا شبه يومي مع زملائهم في الصف بغرض العمل بشكل جماعي، أو من خلال استفسار الأساتذة عن أحوال الطلبة واستعدادهم للإجابة عن أسئلتهم عبر البريد الإلكتروني في كل وقت وحين. أما الطلاب الذين يقومون بالعمل إلى جانب الدراسة فقد أكدوا أن التدريس عن بعد هو أكثر ملاءمة وأريحية لهم، لأنه يعفيهم من عناء التنقل إلى الحرم الجامعي. كما أن الدروس تكون رهن إشارتهم على المنصات المخصصة لتقديم الدروس، ما يمكنهم من الدراسة والعمل ومزاولة أنشطة أخرى دون الحاجة إلى تكريس أوقاتهم كلها للدراسة. وفي المقابل، وجدت الدراسة أن هناك الكثير من التحدّيات تواجه الطلاب خلال تجربة التعليم عن بعد، تتمحور أساسا حول تكنولوجيا المعلومات، مبدأ تكافؤ الفرص، منهجية التدريس، الكم الدراسي، إدارة الوقت، ومحيط التعليم. وعبر بعض الطلاب عن صعوبة التأقلم مع تجربة التعليم عن بعد بسبب ظروفهم المادية التي لا تسعفهم في استعمال الأنظمة الاتصالية الحديثة والوسائل التعليمية الإلكترونية؛ وهذا ما حدا بهم إلى اعتبار التجربة تكريسا لغياب مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص. التعليم عن بعد أداة مساعدة ناقصة التعليم عن بعد أداة مساعدة ناقصة وأفادت الدراسة بأن بعض الطلاب ضاقوا ذرعا من غياب منهجية موحدة في التدريس؛ ففيما كان بعض المدرسين يقومون بالتواصل المباشر مع الطلبة، فإن فئة أخرى فضلت إرسال الدروس على شكل ملفات أو مرفقات؛ وهذا ما اعتبره بعض الطلبة غير مُجْدٍ لعدم استطاعتهم فهم الدروس واستيعابها بالاعتماد الكلي على قدراتهم الشخصية. كما وجد الطلاب صعوبة في التعامل مع الكم الهائل من الواجبات التي أصبح الأساتذة يلحّون عليها للتأكد من اطلاع الطلبة على الدروس، ما تطلب منهم جهدا مضاعفا لإدارة وقتهم لاستكمال الواجبات وبحوث الإجازة في الموعد المحدد. كما اشتكى بعض الطلبة من المحيط الأسري الذي يشكل عائقا أمام عملية التعلم، وذلك بتواجد جميع أفراد الأسرة في المنزل، أو عند محاولة الجميع استعمال وسائل التكنولوجيا المتاحة بشكل متزامن، ما يؤدي إلى فقدان التركيز وهدر الوقت. وما يجمع عليه الطلاب والمختصون في علم الاجتماع أن الحياة الجامعية مختلفة إلى حد كبير عن تجربة التعليم عن بعد بما توفره من كافة النواحي العلمية والاجتماعية. فبعد دخول الطالب عالم الجامعة يعيش تجارب جديدة على جميع المستويات من قاعة الدرس وأساليب تلقي المحاضرة والتفاعل مع الأستاذ المحاضر والمداخلات والمناقشات، إلى جانب التعاطي مع الزملاء والعلاقات الاجتماعية والغالبية من الطلاب يعيشون لأول مرة تجربة الانفصال عن العائلة والسكن المشترك مع طلاب آخرين بعد مجيئهم من القرى والأرياف إلى المدن الكبيرة المكتظة، وكل هذا سيطويه النسيان عند تطبيق قرار التعليم عن بعد، ليصبح التعليم الجامعي مجرد تلقي دروس خلف شاشة كمبيوتر مهما تطور واحتوى على تقنيات وتطبيقات رقمية. التعليم عن بعد تجربة صعبة التعليم عن بعد تجربة صعبة ويرى الباحث المختص في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أن “الجامعة تعد بوابة الدخول إلى الحياة الاجتماعية والمهنية لهذا يكتسي خوض هذه التجربة خطورة مستمدة من صعوبة الحياة نفسها”. وأضاف بالحاج محمد “أن الجامعة ليست فقط فرصة للارتقاء في سلم المعرفة بل أيضا للتدرب على صعوبات الحياة وإكراهاتها والتزاماتها ومسؤولياتها. وهي الخطوة الأولى لتمرين الاعتماد على النفس واختيار أي السبل نسلك في الحياة". ورحب الكثير من الطلاب في تونس بالموقف الرفض للاتحاد العام لطلبة تونس لاقتراح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي اعتماد منظومة الدراسة عن بعد، في إطار الوقاية من انتشار فايروس كورونا المستجد في مارس الماضي. واعتبرت المنظمة الطلابية أن اعتماد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي منظومة التعليم عن بعد يمثل “قرارا مسقطا وارتجاليا” يزيد من تعميق الأزمة الحالية، ويعد ضربا لمنظومة التعليم العالي خاصة على المنحى البيداغوجي. ويأتي موقف المنظمة الطلابية الرافض لمنظومة التدريس عن بعد، على خلفية إصدار وزارة التعليم العالي تعميما في مارس الماضي ينص على تأمين التدريس عن بعد عبر وسائل جامعة تونس الافتراضية. ووضعت جامعة تونس الافتراضية تطبيقا لهذا التعميم وقامات بتوفير منصات ووسائل تكنولوجية خدمة للجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ومدرسيها وطلبتها. ومن جهتها كانت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل قد دعت بدورها، سلطة الإشراف إلى التريث وتجنب “الحلول المتسرعة”، وفق توصيفها، في ما يتعلق بإقرار التدريس عن بعد والعمل على دراسة كافة الاحتمالات والحلول الممكنة من أجل تجنب سنة بيضاء. وطالبت الجامعة في بيان لها باعتماد حل واقعي يضمن مصداقية الشهادات والتكوين الجامعي دون التفريط في مبدأ تكافؤ الفرص بين عموم الطلبة الذين قد يدخل بعضهم في حركة مقاطعة واسعة تزيد من خطورة الوضع.
مشاركة :