لم يعد هناك كتاب قابل للحظر بقرار فوقي، مثلما كان يحدث في الماضي، لأن ثورة التكنولوجيا أتاحت عرض الكتب عبر فضاءات مفتوحة بمجرد ضغطة زر، مع ذلك ما زالت بعض الجهات الرقابية الرسمية في عدد من الدول العربية تحظر تداول روايات بعينها لأسباب سياسية أو دينية أو مجتمعية. بات حظر الروايات في العالم العربي إحدى الوسائل الناجحة للترويج لها، ما ساهم في انتشار الكثير من الأعمال الركيكة فنيا تحت لافتة فضفاضة كونها روايات ممنوعة. يرى البعض من النقاد أن التجارب العملية أثبتت أن إعدام الروايات أو حظرها، وكأنها لم تكتب، أمر شبه مستحيل، حتى قبل تطور التكنولوجيا الحديثة وإمكانية عرض أي كتاب على الناس عبر شبكة الإنترنت. يسهم المنع بصورة واضحة في لفت الأنظار للعمل المحظور والترويج له، فكما يقول الشاعر الراحل نزار قباني “أنا ممنوع في كل مكان، إذن أنا موجود في كل مكان”. تصرف روتيني تؤكد الروائية المصرية ضحى عاصي، أنه رغم قيام الحكومات في الماضي بحظر بعض الأعمال الأدبية، لأنها تخوض في أمور مرفوضة على المستوى السياسي، إلا أن ذلك الحظر سقط عمليا أمام رغبات الناس، من جمهور الأدب وحتى من العامة، في التعرف على محتوى ما حظرته السلطات. وتقول لـ”العرب”، إن ذلك حدث مثلا في رواية “أربات” الروسية التي نشرت بعد وفاة الزعيم السوفييتي ستالين وتناولت جرائمه، فقد منعت بقرار من الحزب الشيوعي، لكنها تسربت بعد قليل عبر التصوير الزنكوغرافي الشائع في ذلك الوقت، وتبادلها العامة وأصبحت من أكثر الروايات رواجا. وترى أن امتداد الحظر الحكومي للروايات في زمن السماوات المفتوحة تصرف لوجيستي روتيني، يعبر عن إعلان الحدود المسموح بها، والمناطق المحظورة في التناول، ولا يتعلق الأمر بالنص المكتوب الذي سيطّلع عليه الناس عاجلا أم آجلا، بقدر ما يتعلق باستخدام المنع والحظر كرسالة إلى المجتمع بأكمله. كل ما لا يتوافق مع المنظومة العامة، اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، يُحجب أو يهمش أو يتمّ تجاهله ويتجاوز الأمر الكتابات التي تتناول الأنظمة السياسية، ويمتد في بعض الأحيان إلى كل شيء، بدءا من الدين والموروث الثقافي والاجتماعي والعلاقات الجنسية وحتى الترويج لأفكار قد تكون غير مقبولة في المجتمع. وتضيف عاصي، “كل ما يريد المجتمع الترسيم له يدعم وينتشر، وكل ما لا يتوافق مع المنظومة العامة، اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، يُحجب أو يُهمش أو يتمّ تجاهله، وفي الحالات القصوى يحظر”. ويوضح الروائي السوداني حامد الناظر، أن الكثير من الحكومات العربية لا تزال أبوية المزاج، وتعتقد أنها وصية على الأفراد وخياراتهم في الاطلاع واعتناق الأفكار، فتقرأ هي بالإنابة عنهم، وتحجب ما يخالف توجهاتها. يؤكد الناظر، لـ”العرب”، أن استمرار الرقابة على الأدب والكتب عموما في العالم العربي لا معنى له سوى أن بعض الحكومات تملك وظائف موروثة، وأموالا فائضة ترغب في منحها لهؤلاء الموظفين الذين يعملون في الرقابة على الكتب. ويشير إلى أن مصطلح الشعب الأعمى لم يعد موجودا في عالم اليوم مع هذه الفضاءات المفتوحة، وليس بوسع دولة إغلاق أبوابها تماما والبقاء في عزلة، فمفهوم السيادة نفسه تغيّر والمعرفة الحقة نسفت الحواجز الحقيقية والمتوهمة. وتعرضت كتب الناظر للحظر قبل سنوات، حيث منعت إدارة معرض الكتاب في الكويت روايته “الطاووس الأسود”، مع أنها تدور في عوالم سودانية محلية، وكانت الرقابة وقتها تتصور أن وجود واقع اجتماعي مغاير يمثل إفسادا للمجتمع، وتمّ في المعرض نفسه منع عشرات الروايات العالمية دون قراءتها كإجراء احترازي ضد العنوان، الذي يوحي بقيم خارجة عن المجتمع. عقل ماضوي لا يمكن كبح جماح الأدب لا يمكن كبح جماح الأدب يوضح الروائي المصري روبير الفارس، أن مصادرة الأعمال الأدبية هو نوع من إعلان الوجود، وكأن الحكومة تريد أن تقول ما زلت موجودة ولي هيبة وسطوة، أغلق وأمنع، وما زلت أمارس دوري الرقابي التسلطي. ويقول لـ”العرب”، إن عقل الرقابة في العالم العربي ما زال يعيش في الزمن الماضي، ولا يقبل بالانفتاح الفضائي وليد الديمقراطية، ولا يعترف بالمنصات الإلكترونية المعنية بالنشر. حظر روايات ما لأسباب سياسية يؤدي إلى صعود مبدعين مزيفين، وانتشار أعمال روائية ركيكة فنيا نتيجة زيادة شغف الجمهور بها كنتيجة مباشرة لقرارات المصادرة، مع ذلك فالذائقة الفنية لا تتأثر بعوامل إعلانية أو دعائية، سلبية أو إيجابية، فالبقاء في تاريخ الأدب للأكثر صدقا. وهناك نوع آخر من المصادرات تُدفع إليه بعض السلطات تحت ضغط المجتمع من خلال تطوع البعض بالضغط الإعلامي أو القضائي لحظر كتاب ما، بدعاوى أخلاقية أو دينية. ويلفت الناقد إيهاب الملاح، إلى أن هناك تاريخا من المواجهات بين المتمسكين بحرية الرأي والتعبير وبين فعل المصادرة والمنع والمحاكمة تحت دعاوى أخلاقية أو دينية أو سياسية أو مجتمعية. ويذكر لـ”العرب”، أن هذا اللون من القضايا لا يكاد يتوقف في تاريخنا المعاصر، فالباحثون عن الشهرة والمهووسون بفرض أفكارهم الدينية والسياسية قسرا وعنوة ما زالوا يفكرون تحت الرماد، ويتحينون فرصة تلوح بوقوع نص أدبي تحت أيديهم مصادفة، أو حتى بإيعاز من مغرض مريض النفس، لتبرق الأعين ويسيل اللعاب فيسارعون بتقديم بلاغات للنيابة العامة أو رفع دعوى قضائية مباشرة أمام المحاكم يختصمون فيها كاتبا أو صحافيا، أو روائيا أو فنانا مبدعا، ثم يتم بعدها إرسال نسخ من هذه البلاغات أو العرائض إلى وسائل الإعلام وتتوالى الأحداث. ويتابع قائلا “ليس جديدا أن يقف كاتب أمام المحكمة بتهمة مثل هذه، وليس جديدا أن يقوم أحد المتطوعين أو المتنطعين بما يشبه وظيفة المحتسب التي كانت سائدة في الأنظمة الاستبدادية في العصور الوسطى برفع دعوى قضائية يتهم فيها كاتبا أو كتابا بأنه يتضمن محتوى أخلاقيا أو سياسيا غير لائق، ويطالب بمنع ومصادرة الكتاب وإدانة صاحبه”. بعض الروائيين يلجأون إلى استفزاز السلطات ضدهم للحصول على قرار مصادرة كنوع من الدعاية لكتبهم ويضرب مثلا بما حدث في الصين قبل سنوات عندما صدرت رواية بعنوان “طفلة شنغهاي” للكاتبة الصينية “وي هوي”، وثارت السلطات الرسمية، وقامت بحرق 40 ألف نسخة من الرواية، على أساس أنها رواية وضيعة، تلطخ سمعة الصين. ويعلق متسائلا هل يمكن لرواية مهما كانت أن تلطخ سمعة بلد بأكمله؟ لعل تصرف السلطات في بكين كان كفيلا بصناعة شهرة مهولة للرواية، وتصاعدت الأجواء التي أعادت إلى الأذهان ما حدث مع “آيات شيطانية” لسلمان رشدي الهندي، و”لاجا” للكاتبة البنغالية تسليمة نسرين، و”تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، والقائمة تطول. وفي النهاية مهما يتغير السياق الزماني والمكاني والتاريخي والسياسي، فالسلطة تبقى كما هي لا تتغير، والحرق والمنع والمصادرة، من الأفعال التي تؤدي إلى المزيد من انتشار العمل ولفت الأنظار إليه، وتحويله أحيانا إلى وسيلة دعاية مضادة للنظام، ويزداد الأمر تعقيدا عندما يشمل هذا المنع الغث والسمين. وقد يلجأ أصحاب بعض الأعمال أنفسهم إلى استفزاز السلطات ضدهم للحصول على قرار مصادرة كنوع من الدعاية لكتبهم، وسبق أن حكى الكاتب الراحل خالد محمد خالد، في كتاب سيرته الذي حمل عنوان “قصتي مع الحياة” أنه نشر كتابا في القاهرة عام 1950 بعنوان “من هنا نبدأ”، وحمل تصورا حول المؤسسة الدينية وسلطتها، ولم يكن يعرفه أحد. وحاول الترويج للكتاب بأن كتب مقالا منتقدا ومستنكرا ضد الكتاب مطالبا بمصادرته، واتفق مع أحد الأصدقاء أن ينشر المقال باسمه في صحيفة “منبر الشرق” تحت عنوان “كتاب أثيم لعالم ضال”، ليقرر الأزهر التدخل بالفعل ويصادر الكتاب، ما جعله الأكثر رواجا بين مؤلفات الرجل. بالمنطق ذاته، يلجأ بعض الروائيين إلى ادعاء حظر رواياتهم كنوع من الدعاية المباشرة لها، مثلما فعل الروائي المصري علاء الأسواني عندما ذكر فور إصداره رواية “جمهورية كأن” أن السلطات المصرية حظرت روايته، بينما لم يصدر قرار رسمي بذلك من أيّ جهة.
مشاركة :