تتطلب كل مهنة مجموعة من المهارات.. فهناك عمالة بدنيّة، كالرياضيين وعمال البناء أو حمالي الحقائب في المطارات.. وهناك عمالة ذهنية، كالمؤلفين والملحنين والمصممين.. إلا أن هناك مهناً تتطلب بذل مجهود مختلف.. وهي «العمالة العاطفية»! هذه المهن تتطلب التحكم في الانفعالات وإظهار مشاعر معينة طوال الوقت.. فمثلا، موظفو المبيعات والاستقبال وخدمة العملاء والمضيفين في المطاعم، يضطرون للابتسام وإظهار تعبيرات السعادة طوال الوقت وحتى أثناء تلقي الشكاوى، وأيا كانت ظروف حياتهم.. كما يحتاج ممثلو الأعمال الدرامية، إلى تقمص انفعالات قوية كجزء أصيل من عملهم، وهو ما قد يسبب لهم الكثير من المتاعب النفسية.. يحكي الفنان أحمد زكي كيف ذهب باحثا عن علاج انتفاخ البطن والتعرق الشديد، الأمر الذي حير الطبيب إذ لم يجد له سبباً عضوياً.. وبعد تبادل الحديث اكتشف أن السبب الحقيقي الغريب لهذه الأعراض فنيّ وليس طبياً! ففي هذا الوقت كان أحمد زكي يصور فيلم «زوجة رجل مهم» حيث لعب دور شخص ذي سلطة زال عنه نفوذه فجأة، فتعرض لضغط عصبي شديد دمّره نفسيا.. وقد كان ملتصقاً بهذه الشخصية متقمصاً لها شاعراً بانفعالاتها لدرجة أظهرت لديه هذه الأعراض النفس-جسدية «سايكو سوماتيك» التي لم تختف إلا بعد انتهاء التصوير بفترة.. وحكى لي أستاذنا البروفيسور أحمد عكاشة كيف أن الفنان أحمد زكي، كان يودع الحياة وهو يتمتم بعبارات ويبدي انفعالات تخص شخصيات أداها خلال حياته.. وهذا مثال قوي على عمق تأثير العمالة العاطفية على صاحبها.. ليس هذا الأمر بعيداً عنك، عزيزي القارئ.. لو لم تكن وظائفنا تصنف كعمالة عاطفية، فإن حياتنا الاجتماعية والمهنية تتطلب إخفاء مشاعرنا بدرجات متفاوتة.. ويمكننا تصور مدى الإنهاك النفسي، الذي يتعرض له شخص لا يستطيع أن يكون نفسه! فكيف يمكننا مواجهة هذا الاستنزاف العاطفي؟ الطريقة الأولى: الراحة.. الانفصال عن الدور الذي تلعبه كي تعود لنفسك وانفعالاتك الطبيعية.. عن طريق الاسترخاء والترويح عن النفس، وتكرار المشاعر الإيجابية لإزالة التأثير الفسيولوجي الضار للمشاعر السلبية.. الطريقة الثانية: مجاراة الحالة الشعورية والاقتناع بها.. فبدلا من ضغط الادعاء الدائم، على نادل المطعم أن يثير مشاعر الود بداخله كي يكون مضيافاً برغبة نابعة من داخله.. أو أن يعيد قراءة الموقف ليراه بصورة تستدعي الانفعال المناسب. الطريقة الثالثة: التنفيس.. كبت المشاعر يستنزفنا نفسياً، لذا تأتي أهمية التعبير عن النفس إن لم يكن ذلك متاحاً في سياق العمل أو الحياة الاجتماعية.. ولهذا السبب يشجع الناس مباريات الكرة ويمارسون الهوايات ويكتبون الروايات المليئة بتجارب شعورية متنوعة، للتنفيس عما في داخلهم من مشاعر وانفعالات.. كما حكى لي الأديب الدكتور أحمد خالد توفيق مراراً كيف كان يكتب للحفاظ على اتزانه النفسي وراحة ذهنه.. قد تكون مهنة تكسير الصخور في الجبل مهنة شاقة بدنياً.. إلا أن الضغط النفسي الواقع على موظف في مكتبه، قد يسبب له مشقة نفسية وصحية لا يستهان بها أيضاً.
مشاركة :