د. شريف عرفة يكتب: حل «مفارقة إيسترلين»!

  • 8/21/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعرف كل دارس لعلم الاقتصاد السلوكي، ذلك اللغز الشهير المسمى«مفارقة إيسترلين» الذي حيّر العلماء طويلاً.. ولكي تتعرف عليه، اسمح لي أن أحكي لك القصة من البداية.. وجد العلماء أن زيادة الدخل تؤدي غالباً لزيادة سعادة محدود الدخل، لأن الثروة تخفف من المعاناة الناتجة عن نقص الموارد.. مثل عجز الإنسان عن تلبية احتياجات أطفاله مثلاً.. لو حصل على دخل أكبر، سيستطيع أن يشبع احتياجات أكثر، ومن ثم يزيد رضاه عن الحياة وتقل معاناته.. وهذه العلاقة الطردية بين زيادة الدخل والسعادة، تبدو منطقية ومفهومة في هذا السياق.. إلا اللغز العجيب لا يترك الأمور بهذه البساطة.. ففي الدول الحديثة، زاد الدخل بشكل ملحوظ في المجتمع ككل.. تحسن الاقتصاد، وأصبح لدى الناس موارد ومصادر ترفيه وإشباع لاحتياجاتهم أكثر مما كان في الماضي.. ولذلك يفترض أن تزيد سعادة المجتمع ككل، إلا أن العكس هو ما يحدث في بعض الدول.. إذ تشير البيانات إلى أن السعادة تناقصت في كثير من المجتمعات التي شهدت طفرات اقتصادية، ولم تزد كما يفترض! وهذه هي مفارقة إيسترلين: زيادة دخل الفرد تزيد من سعادته، ولكن زيادة دخل المجتمع كله، لا تزيد سعادة أفراده.. فما تفسير ذلك؟ حاول علماء روس الإجابة عن هذا السؤال في دراسة شائقة نشرتها للتو «جلوبال ليبور أورجانيزيشن»، حيث قامت أوليفيا جين، وفانندرا وونافا، بتحليل بيانات الرفاهية الاقتصادية الذاتية والرضا عن الحياة في المجتمع الروسي على مدار أربعة وعشرين عاماً (من 1994 حتى 2018).. فوجدوا القطعة الناقصة التي قد تكمل البازل.. تبين الدراسة أن أولئك الذين يعتقدون أن حالتهم المادية جيدة، كانوا أكثر سعادة في حياتهم، بغض النظر عن مقدار الدخل، أو البطالة، وغيرها من العوامل.. أي أن الدخل ليس هو العامل الوحيد للسعادة، بل إن الطريقة التي ينظر بها المرء إلى رفاهيته الاقتصادية، هي العامل الحاسم في الرضا عن الحياة! انتشار التنافس والتفاخر والرغبة في التعالي علي الآخرين، هي سبب تقويض الرضا عن المستوى المادي في المجتمع الذي تنتشر فيه هذه الثقافة! لو كنت ميسور الحال، ليس المهم مستواك المادي، بل كيف تنظر أنت لهذا المستوى.. هل تعتبر حالتك المادية جيدة أم لا؟ لا علاقة للأرقام هنا بالموضوع، بل أتحدث عن إحساسك وتقييمك الشخصي الذاتي.. وفي المجتمعات المادية الثرية، يزيد دخل الجميع بالفعل.. ولكن كل منهم ينظر لجاره.. يقارن نفسه بزميله.. ليس راضياً عن حاله لأن حال الجميع على ما يرام.. لو حصل على سيارة جديدة، يفترض أن يكون سعيداً، لكن هذا لن يحدث حين يقارنها بسيارة أحدث امتلكها شخص آخر.. هذه العقلية تجعل السعادة سراباً لا يمكن بلوغه أبداً! قد يكون الدرس المستفاد هنا هو خطورة المقارنات الاجتماعية، وضرورة ألا يقوم المرء بتقييم حياته بمدى ما يحققه زميله أو ما يمتلكه جاره.. فكما يقال دوماً، إن الثقة بالنفس ليست أن ترى نفسك أفضل من الجميع، بل ألا تحتاج لعقد هذه المقارنة من الأساس.. تتطلب السعادة الحقيقية ذلك أيضا، ويبدو أن هذا هو حل اللغز!

مشاركة :