يوثّق الفنان التشكيلي البريطاني توم يونغ معالم بيروت المنكوبة دون أن يقع في رتابة تسجيل ما رأى من مشاهد دمار على النحو الذي يتبعه فنانون تقع أعمالهم في خانة ما يُسمى بالفن السياحي. هذا الفن الذي لا يتعدّى كونه استعادة لمعادلة تشكيلية جاهزة وثابتة وغير مفتوحة لا على الابتكار ولا على إنتاج أي معنى من خلال المشهد المرسوم. بيروت - جاء الفنان التشكيلي والمهندس والصحافي البريطاني توم يونغ إلى لبنان منذ أكثر من عشر سنوات ليوثّق الحوادث الحاصلة فيه، ومنها ما حدث خلال شهر يوليو من سنة 2006، أي نتائج العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان. غادر بعد ذلك البلد هربا من المآسي المتكرّرة التي عايشها عن كثب. انتقل من بلد إلى بلد وصولا إلى كندا. ولكنه لم يلبث إلاّ أن عاد شوقا، وفق ما ذكر في أكثر من مناسبة، ليعمّق من تجربته الفنية التشكيلية التي كانت جزءا مهما من خلفيته الأكاديمية، ويوظفها في خدمة أجمل ما شاهد في لبنان وبيروت بشكل خاص. اليوم الفنان حاضر على وتر الحدث اللبناني كحال كل فنان لبناني أو عامل منخرط في الشأن الثقافي/ الفني. تورّط عاطفي قدّم الفنان توم يونغ أكثر من مئتي لوحة تشكيلية معظمها كبير الحجم وثّق فيها وجه لبنان التراثي المهدّد بالدمار. وإن كانت لوحاته الأولى يغلب عليها التوثيق البصري الذي اعتدنا رؤيته عند كل فنان كان هدفه الوحيد “حفظ” معالم المنشأ الذي يقف أمامه لأجل الذاكرة والتاريخ، فإن لوحات الفنان التالية ووصولا إلى تلك التي نفّذها أخيرا، تشهد على تحوّل داخلي حرّر السرد البصري/ الفني من عملية التوثيق “الهادئة والمتروية” التي طغت على أعماله السابقة. وفي حين كانت أعماله الأولى تبدو وكأنها رُسمت من على بعد عاطفي بدت أعماله في السنتين الأخيرتين منغمسة ومتورطة عاطفيا بالحدث، أو بالمشهد المنقول على القماش بضربات ريشة واثقة تحرّرت من “ميثاقيتها” الأكاديمية البحتة والرتيبة. كما لم تعد لوحاته تذكّر بالرسومات “الفولكلورية” المعاصرة لفناني “مونبرناس” المتحلّقين في وسط الساحة الباريسية تلبية لطلبات السياح من كل بلاد العالم (علما وأن هذه المنطقة شهدت نشاطا فنيا رائدا منذ بداية القرن التاسع عشر غير معني بأمور السياحة، بل بشؤون الفن والتقدّم العلمي المنعكس على مجال الفن). الفنان توم يونغ قدم أكثر من مئتي لوحة تشكيلية معظمها كبير الحجم وثق فيها وجه لبنان التراثي المهدد بالدمار والاندثار كانت للفنان توم يونغ، الذي درس الفنون الجميلة في “كلية نورتش للفنون” في المملكة المتحدة والهندسة المعمارية في جامعة نيوكاسل الإنجليزية، معارض فنية عديدة في لبنان ونيويورك وفرنسا وبريطانيا، غير أن أهمها ما قدّمه كفنان بريطاني الجنسية ولبناني الهوى، في لبنان. نذكر بشكل خاص المعرض الذي حمل عنوان “في البيت الزهري” وضمّ لوحات عن بيت قديم في بيروت يعود إلى القرن التاسع عشر يغلب على هيئته الخارجية اللون الوردي الذي يتناقض مع رمادية وبياض الأبنية المعاصرة التي غزاها الزجاج والألومنيوم. بيت ساحر يطلّ على مدينة الملاهي العريقة والقريبة من الكورنيش البحري، حيث يتجوّل الناس بشكل يجعلهم بعيدين عن همّ الأمن والسياسة المحلية. وقد أعتُبر من أبرز البيوت اللبنانية القديمة التي سكنتها شخصيات تركية وفرنسية وأميركية. وقال الفنان يومها عن اختياره لهذا المنزل ليكون مصدر إلهام فني تحقّق في أكثر من أربعين لوحة عرضت في أرجاء البيت الزهري “كنت أتمشى أنا وزوجتي على كورنيش بيروت، حيث وقع ناظري على بيت زهري اللون.. قرّرتُ القيام بزيارة للبيت، حيث دخلته وقابلت أصحابه، ورأيت كمّا هائلا من الأشياء الجميلة أيقظت خيالي الفني، أقمتُ ستة أشهر في البيت، حيث خطت ريشتي خمسة وأربعين لوحة”. بين حدثين بين السلم والدمار تظل بيروت زهرية الألوان بين السلم والدمار تظل بيروت زهرية الألوان المتابع لأعمال الفنان البريطاني توم يونغ يعلم أن هذا المعرض كان محطة أساسية في تحوّل الفنان إلى العمل الفني التعبيري بعيدا عن التوثيق النيء للمَشاهد. ثم جاءت الثورة اللبنانية ليقدّم الفنان مجموعة من اللوحات توثق لحظات الثورة اللبنانية بما فيها من ثورة على الفساد المتمثل في قسم منه في تدمير التراث اللبناني المتجسّد في الأحياء والمباني القديمة. انتشرت أعماله على شبكات التواصل الاجتماعي ولاقت اهتماما كبيرا. دخل اللون الوردي إلى العديد من هذه اللوحات ولم يكن نافرا البتة، بل متماهيا مع نبض ثورة فتية ضمّت جميع الأعمار دون أن تبخل على ذاتها إمكانية الحفاظ على وردية الأحلام بوطن موعود. وإذا كان هذا اللون وجد تعبيريته بكل رحابة في وسط هذه الأعمال، فقد برز أيضا في لوحات الفنان الجديدة التي نشرها مؤخرا على صفحته الفيسبوكية، والتي صوّر فيها انفجار بيروت (يُذكر أن بيت الفنان تضرّر جراء الانفجار كما تضرّرت العديد من أعماله الفنية) ولوحات جسّد فيها عمليات التنظيف التي قام بها متطوّعون شارك معظمهم في انتفاضة 17 أكتوبر. أطلق توم يونغ على هذه اللوحات عنوان “الملائكة الشجعان” الذين اعتبرهم الفنان أبطال لبنان الحقيقيون بأعمارهم وخلفياتهم الثقافية المختلفة. كما رسم يونغ المباني المتضرّرة في أكثر من عشرين لوحة من زوايا مختلفة وبشحنة عاطفية بارزة. في هذه اللوحات بالذات يسهل ملاحظة كيف خرج الفنان بشكل كلي من التوثيق البصري الفجّ إلى التعبيرية الغنائية المتورّطة بالموضوع المطروح. من “البيت الزهري” قرب كورنيش البحر إلى البيت الثاني الذي يحمل نفس الاسم في منطقة الجميزة خطّ الفنان لوحاته بوردية الجرح الغضّ، ليصوّر البيت الزهري الثاني وعددا آخر من الأمكنة التي دخل إليها اللون الوردي مرحبا به كعادته في لوحاته، مضفيا على المَشاهد خاصية تميّزت بها أعمال توم يونغ. أعمال تتحدّث عن الماضي وعن الحاضر، وعن السلم والدمار على السواء، أعمال حملت عناوين بحجم الكارثة على غرار “بيروت بعد الانفجار” و”الفاجعة” و”صلوا لأجل بيروت” و”مرفأ بيروت”.
مشاركة :