عبر ما يزيد عن المئة عام، اهتم أهل المسرح في العالم بنص مسرحية “رقصة الموت” للكاتب السويدي الشهير أوغست سترندبرغ. وهي التي ظهرت في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية. وفي مقاربة جديدة عنها قدّم المسرح القومي السوري رؤية معاصرة للعرض وقّعه إخراجا وتمثيلا المخضرم حسن عكلا. دمشق – جدلية العلاقة بين المرأة والرجل كانت موضوعا أثيرا للمسرحي السويدي أوغست سترندبرغ (1849-1912). وهو الذي عاش طفولة قاسية تمرّد فيها دينيا على والده وتعاليم الكنيسة، كما عرف العديد من النكسات الروحية والنفسية وتجارب فاشلة في الزواج أدّت به إلى انهيار نفسي أبعده عن الكتابة مدة خمس سنوات. الحياة الحافلة بالمنعطفات النفسية والفكرية الحادة جعلته مع الكاتب المسرحي الشهير أنطون تشيخوف وهنري إبسن أحد أهم ثلاثة كتاب مسرحيين عالميين قدّموا للمسرح العالمي الحديث الكثير من عوالمه الإنسانية العميقة، والتي امتد تأثيرها في أوروبا والعالم لمدة تقارب القرن من الزمن. علاقات متشعبة مسرحية “رقصة الموت” كتبها عام 1901 أوغست سترندبرغ بعد خروجه من عزلته النفسية التي انتهت عام 1898. وقد اهتم حينها بالأديان والثقافة الشرقية وتعرّف على منجزات علم التحليل النفسي، وخاصة ما كان يقدّمه سيغموند فرويد وكذلك بتعمّقه بفلسفة شوبنهاور ونيتشه، وهذا ما ظهر واضحا في كتاباته اللاحقة التي كانت غزيرة وعميقة. في هذه المرحلة بدأت كتاباته المسرحية ضمن رؤية المسرح الواقعي وبدأها بثلاثية مسرحية مستمدة من حياته الشخصية فصدرت مسرحية “الطريق إلى دمشق” على ثلاثة أجزاء بدءا من عام 1898 وحتى عام1901. وقد استقى موضوعها من الكتاب المقدس في رحلة القديس بولس إلى دمشق باحثا عن الترياق الذي يشفي المرض، وكذلك من خلال قصة ولادة حواء من ضلع آدم. ومسرحية “رقصة الموت” تندرج ضمن ما يصطلح النقاد على تسميته بـ”مسرح الواقع”، وهي تُعالج موضوعات حياتية حارقة، وتعتبر مع مسرحية “لعبة حلم” و”الآنسة جولي” من أكثر مسرحيات سترندبرغ ظهورا على مسارح العالم. وكانت هذه المسرحية الأولى عربيا التي قدّمت على مسارح باريس عام 1974 باللغة العربية وشارك في بطولتها سناء جميل وجميل راتب والممثل الفرنسي كلود مان. وفي رؤية جديدة، انطلق المسرح القومي في سوريا مع أواسط شهر سبتمبر الجاري في عرض المسرحية تحت عنوان “رقصة الموت الأخيرة”، والتي كان مخططا أن تقدّم منذ أشهر على خشبة مسرح اللقاني بدمشق بمشاركة كل من الفنان المسرحي السوري الشهير سليم صبري وعبدالرحمن أبوالقاسم والفنانة فيلدا سمور. لكن التأجيل الذي فرضه تفشي وباء كورونا غيّر خارطة المشاركين ليجسدها كل من حسن عكلا وغسان الدبس ورامية زيتوني. تقوم أحداث المسرحية التي أخرجها حسن عكلا عن نص مسرحي كتبه أوغست سترندبرغ ثم أعاد دورنمات كتابته في العام 1968 رغبة منه في نقله للمخرجين، على كشف علاقة بينية بين ثلاثة أشخاص. الكونت إدغار وزوجته أليسا وابن عمها والصديق المشترك القديم كورت المغترب العائد من أميركا. يعيش الكونت إدغار فوضى نفسية عميقة تتأرجح بين ماضيه العسكري القديم المتمتع بالسلطة والقوة والتحكم بمصائر الناس، وبين واقعه المأزوم الذي يحياه يوميا في منزل بائس فوق إسطبلات فقيرة وبرفقة زوجة تكن له الكره الظاهر على جزيرة نائية بائسة. بينما تعيش أليسا زوجته القادمة من أصول بورجوازية حياة محطمة بسبب مغامرتها بزواجها المضطرب، وكذلك بسبب فشلها في أن تكون ممثلة ناجحة وتلاشي حلمها الإبداعي. لا يخفي الزوجان كره كل منهما للآخر، فهما معتادان على كيل سيل من الشتائم والنقد الجارح لبعضهما البعض، الأمر الذي يصل بها إلى إبلاغ قائده في العمل عن سرقاته المهنية بالتعاون مع رئيس مستودع الأسلحة، ويبدو هذا الكره أيضا من الزوج عندما يواجه زوجته بحقيقة الزواج منه رغم حبها لشخص آخر رغبة منها في الحفاظ على بقايا مكانتها البورجوازية. مكاشفات مؤلمة مشاهد درامية مشاهد درامية ذروة الأحداث الدرامية في العرض تكون عندما يأتي لزيارتهما الدكتور كورت المغترب القادم من أميركا بعد تجوال طويل له في أستراليا وفرنسا وأميركا. وهو الذي رحل عن البلد فقيرا، ولكنه يصبح غنيا ليعود إلى وطنه راغبا في الانتقام من كل من سبّب له التعاسة سابقا حتى من صديقه السابق وزوجته أليسا ابنة عمه. يُصارحها الزوج بأنه يعتبر كورت إنسانا وضيعا، بينما ترفض الزوجة ازدراء ابن عمها والصديق المشترك سابقا والذي كان سببا في زواجهما. وتبدأ المكاشفات المؤلمة بينهما. تكشف له بأنه لص، ويكشف لها بأنها ساقطة، تتهمه بأنه كان السبب وراء ضياع ولديهما، بينما يؤكّد أنها أهملتهما فماتت الابنة وهي تجهض في المستشفى بحمل غير شرعي، وسافر الولد لرسم حياته بعيدا عن فوضاها. بدخول كورت العشيق القديم لأليسا تفاصيل حياتهما تصير المكاشفة ثلاثية وأكثر إيلاما. لتبدأ نزوف الروح بالظهور وسط نوبات الغياب عن الوعي التي كان يعاني منها الزوج بسبب مرضه، وأثناء إحداها ينتقم الاثنان منه بوجودهما في فراشه. يخرج الزوج نحو عمله راغبا في إلغاء طلب استقالته تاركا لهما فرصة الإيغال في خداعه ولا يلبث أن يعود ويخاطبها بلهجة حاسمة بأنه كان يعرف كل ماضيها مع ابن عمها وحبها له، ثم يسلمها وثيقة طلاقها الرسمية لكي يتسنى لها الزواج من حبيبها السابق، ويؤكّد لها أنه سوف يعيش 20 عاما آخر بعيدا عنها ومع المرأة التي يحب وهي زوجة كورت السابقة التي طلقها منذ سنوات. مئة عام مرت على كتابة السويدي أوغست سترندبرغ نص «رقصة الموت» وما زالت المسرحية نابضة بالحياة وفي ذروة درامية متصاعدة يكشف الزوج أمام أليسا حقيقة كورت المغترب الذي جاء بماله من عمليات النصب والسرقة، وأنه بجهد قليل من التحري قد جمع عنه الكثير من المعلومات القذرة التي ستؤدّي به إلى الهلاك. ويكون ثمن صمته على ذلك بأن ينقل إليه هذا المال، فيوافق كورت وسط ذهول أليسا. لكن القدر لا يسمح بذلك. فيقوم الزوج برقصة الانتصار التي تكون رقصة الموت، حيث تباغته ذبحة صدرية قاسية تؤدّي بحياته. ليظهر إدغار في المشهد النهائي وهو يشهر سيفه عاليا كما لو أنه صنم يجسّد حالة انتصار القوة وتسلطه على الآخرين ورسم مصائر حيواتهم. الأحداث الدرامية في المسرحية لم تكن كثيرة، فالتغير الدرامي والمنعطفات كانت قليلة، وعدد الشخوص كذلك، وهذا ما مثّل تحديا كبيرا لإيجاد شرط فرجة يحمل تشويقا للمتلقي، الأمر الذي حذا بمخرج العرض ومعدّه حسن عكلا وباقي فريق العمل بأن يلجأوا إلى رشاقة الحوار والأداء السريع المتواتر، وكذلك إلى الاعتماد على وجود عدد من الرقصات التي قدّمها الفنان حسن عكلا، فأشاعت في جو العرض مساحات تشويق كانت ضرورية لكسر حالة فقر المنعطفات الدرامية وقلة عدد الشخوص. كما أن وضع مشهدية العرض كاملة في مساحة واحدة ضمن حلبة خشبية دائرية كبيرة توّسطت المسرح، ومن ثمّة دورانها بشكل دائم قد نقل إحساسا بأن ما نشهده هو عرض مصارعة بين متنافسين مع ما يعترضه من تغيرات زمنية ومكانية في تقلبات الدهر وأحداثه.
مشاركة :