الأدب يكسر المعايير الأرسطية ويفتح أبوابه لحياة الأفراد العاديين | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 9/24/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في "فن الشعر" يطرح أرسطو نظريته عن معايير تشكيل قصيد بوصفه تخييلا سرديّا. وإذا كانت تلك النظرية تؤلف حاضنة ثابتة للعقلانية التخييلية الكلاسيكية في الغرب، فإن الفرنسي جاك رانسيير، في كتابه “حواف التخييل”، يطمح من خلال طرح جديد إلى التأكيد على التحولات التي طرأت على الرواية الحديثة والعلوم الإنسانية والاجتماعية بداية من القرن التاسع عشر. يبدو الأدب التخييلي في التقليد الأفلاطوني، الذي جعل الفكرة الحق غاية بحثه، وجها من الوجوه المناهضة للفلسفة، على غرار السفسطائية في شتى أوجهها. أما التقليد الأرسطي، وإن رأى التخييل دون الفلسفة درجة، فإنه اتّخذ فهم الواقع كما يتصوره كل فرد هدفا له، وعندما لاحظ أن التخييل موجود وينتج بعض المؤثرات، عمل على شرح معايير سردية محكمة البناء، وتحليل آثارها. السردية التخييلية كان أفلاطون يرسم خطط مدينته الفاضلة، ويحرق التراجيديات التي ألفها، وينتقد الشعراء، أما أرسطو فكان يجمع وينشر دساتير عدة مدن، ويدرس الشعراء التراجيديين دون أن يكون في شعريته توصيف، رغم أن منظري الكلاسيكية قرأوه من هذه الزاوية. ذلك أن أرسطو لا ينظر إلى الشعر من جهة أوزانه، وكمثال على تصوره يقول بصريح العبارة إننا لو صغنا هيرودوت شعرا، فسوف يبقى مدوّن وقائع، شخصا يروي “ما حدث، لا ما يمكن أن يحدث” ولن يتحول أبدا إلى شاعر، لأن الشعر عند أرسطو يهدف إلى بناء “سرديات متخيلة درامية أو ملحميّة”. جاك رانسيير: الأحداث في العمل التخييلي لا تقع صدفة، بل تأتي كعواقب ضرورية أو كنتائج محتملة لسلسلة من الأسباب جاك رانسيير: الأحداث في العمل التخييلي لا تقع صدفة، بل تأتي كعواقب ضرورية أو كنتائج محتملة لسلسلة من الأسباب وما نسمّيه اليوم شعرا يظل بعيدا عن التراجيديا الإغريقية، وأبعد منه عن الملحمة التي يمكن أن نرى فيها المعادل القديم للجنس الروائي. ومن هنا يبدو أن لفظة تخييل هي أفضل ما يندرج في التصور الأرسطي، الذي يقرّ بأن التخييل خلق فكري ولا يمكن حصره في الكذب والوهم كما ذهب إلى ذلك أفلاطون. والمفارقة في التصور الأرسطي أن العمل التخييلي هو خيال بالدرجة الأولى، أي أنه يتحدث عن أشياء وأحداث متخيلة، لم تحدث قطعا، أو أنها لم تحدث بالطريقة والترتيب اللذين يعرضهما المبدع، ما يوهم بأن اتهام المبدع بالكذب له ما يبرّره، ولكن تلك التهمة مرفوضة لأنه لا يكفي أن يكذب المرء كي يَنشأ تخييل بالمعنى الذي نطلق عليه مصطلحي الشعرية أو الخلق الأدبي. كما لا يمكن أن نكذب بذكاء إلا متى بنينا سردية تخييلية متناسقة، قد تكون أكثر إقناعا، وأدنى حرجا مما لو قلنا الحقيقة عارية، على رأي بروست، ويبقى شرط توافر العناصر، التي تهب التخييل متانته وتماسكه أي رُجحانه وقابلية حدوثه، قائما لا محيد عنه. وفي كتابه “حواف التخييل” يرى جاك رانسيير أن ما يميّز التخييل عن التجربة العادية ليس نقص الواقع بل فرط العقلانية، فالأحداث في العمل التخييلي لا تقع صدفة، بل تأتي كعواقب ضرورية أو كنتائج محتملة لسلسلة من الأسباب والمسبّبات، مثلما يلاحظ أن الرواية الحديثة ليست نسخة كربونية من التراجيديا الإغريقية، وأن التخييل لا يخص الأدب وحده، بل يشمل في رأيه حقولا أخرى كالأخبار والمسلسلات وحتى علم الاجتماع، وإن بدرجات متفاوتة، إذا اعتمدنا على المبادئ الأرسطية عن العقلانية التخييلية بطبيعة الحال. ويستحضر رانسيير منظرين كبيرين هما جورج لوكاتش وإريك أورباخ وكانا قد أكّدا في حديثهما عن تطور الرواية الحديثة أنها شهدت توسّع حقلها الدلالي وانزياحها نحو شخصيات تنحدر من أوساط اجتماعية غير أرستقراطية، وجنوحها إلى أعمال وأحداث لم يكن السابقون يعتقدون أنها جديرة بأن تروى، كحديث فيرجينيا وولف عن والدتها وهي تزرد جوارب، أو وصف فلوبير غَداء مدام بوفاري في قاعة رطبة كتعبير عن “مرارة الحياة” التي تحياها. لقد استطاعت الرواية عبر مراحل تطورها أن تستقبل شخصيات ووضعيات كانت في السابق على الهامش، وتمحو الفرق بين ما يحدث، وما يمضي ببساطة؛ وبين الأحداث المنقولة والأحداث المبتكرة. والتوقف عند هذه المظاهر هو استكشاف لهذا العلم الاجتماعي الذي يريد إماطة اللثام عن حقيقة الواقع المخفية. ثيمة التنافذ "حواف التخييل".. طرح جديد لتحولات الرواية الحديثة "حواف التخييل".. طرح جديد لتحولات الرواية الحديثة كانت الأبواب والنوافذ تفصل الطبقات الاجتماعية، فلا يرى النبلاء وعلية القوم عامة الشعب إلا من مسافة بعيدة، عبر نوافذ قصورهم وأبواب عرباتهم، وقد انعكس كل ذلك في روايات التأسيس، بيد أن الرواية الحديثة سمحت لأبطالها بعبور تلك النوافذ، حتى وإن كان في الأمر خطورة، مثل فابريس بطل رواية “صومعة بارما” لستندال الذي توصل إلى إقامة علاقة مع كليليا عبر النافذة. ومن النافذة أيضا التقت نظرات بطلة رواية بلزاك “أورسول ميروي” بعيني سافينيان برغم المسافة الاجتماعية التي تفصل بينهما. ثيمة التنافذ هذه نجدها في مجال العلم أيضا، في الاتجاهين. مرة أولى في تبني الخطابِ الماركسي عن تقديس السلعة أشكالَ تخييل معلَن، في حين أن التاريخ لم يعد كما كان في تحليل أرسطو. ومرة أخرى في اقتحام العقلانية العلمية الرواية البوليسية. أما الروايات السياسية لجوزيف كونراد فهي تطرح مسألة أخرى تمسّ العلاقات بين المحتمل وقوعُه متخيلا والمتوقع حدوثُه فعلا كمحاولات الاغتيال التي قام بها بعض الأناركيين داخل روايته، ثم على أرض الواقع، رغم أن كونراد أنكر بشدّة معرفته بهم وبمخططاتهم، غير أن آراءه السياسية ليست في أهمية الثغرة التي فتحها بين الضروري والممكن حدوثه. في “الصخب العنف” فتح وليم فوكنر النافذة في الاتجاه المعاكس، حيث لم تعد الرواية هي التي تقترب من الحيوات العادية، بل صارت تلك الحيوات هي التي ترتقي إلى مستوى حكايات الصخب والعنف التي كانت في ما مضى تصيب الأسر الأميرية وحدها. فالراوي هنا أبله أبكم، كرمز لمن لا صوت لهم، وطريقة لعبور حافة، من خلال علاقة ممدودة بين العامّ وغير العام، بين ما هو مشترك وما لا يمكن التشارك فيه. ولو أمعنّا النظر في الروايات العالمية الأخرى، لوجدنا أن التخييل لا يني يوسّع حقله، ويؤكّد على قدرة الابتكار التي يمكن أن يطمح إليها حتى البسطاء من فئات المجتمع، ما يعني أن التخييل يفيض أحيانا فينتقل من الجمالية إلى السياسة، والغاية دائما معرفة كينونة الإنسان ووضعه وكلمته. لقد بسط علم الاجتماع على مجمل العلاقات البشرية نموذجَ السببية الذي كان يفسر من خلاله أفعال شخصيات مختارة، بعكس الأدب الذي عدل عن ذلك النموذج ليكون لصيقا بالأشخاص البسطاء، يواكب الحياة اليومية، ويقيم على الحافة القصوى التي تفصل ما هو موجود عمّا يمكن أن يحدث. وبذلك كسر الأدب مبادئ المعايير الأرسطية ليلغي الحدود التي تحصر واقعا خاصا بالتخييل، فصارت العلوم الاجتماعية تدرج فعل الإنسان في العالم الاجتماعي والاقتصادي، بينما اتجه الأدب نحو كتابة لحظات من معيش الأفراد العاديين وظروفهم ومشاغلهم.

مشاركة :