سألت الرئيس الإكوادوري، ذات يوم، وهو يحاضر بنا في جامعة هارفارد العريقة، السؤال التالي: فخامة الرئيس، ما السر وراء نجاحك في المفاوضات الوطنية الشائكة في بلادك، وخروجك من عنق الزجاجة بحلول مرضية للطرفين؟ فقال باختصار طبقت المحاور الخمسة الشهيرة التي جاء بها زميلنا في جامعة هارفارد التي تقود أي نقاش أو تفاوض مهما كانت درجة تعقيده أو سهولته إلى نتيجة مرضية للطرفين، أو win - win كما يسميها الأميركيون.ومن يتتبع مفاوضات السلام بمنتجع كامب ديفيد عام 1978، ومفاوضات تحرير الرهائن الأميركيين في سفارة بلادهم في طهران إبان الثورة الإيرانية، وخطف الطائرات يلاحظ أن هناك شخصية خفية كانت وراء كواليس تلك المشاهد وهو البروفسور روجر فيشر الذي قدم عبر أبحاث عديدة مفهوم المحاور الخمسة للتفاوض principled negotiation حيث تستند إلى فكرة رئيسية وهي أن الناس عادة ما يكونون «أكثر قسوة على من يحاورونهم أو يفاوضونهم وينسون التركيز على المشكلة» بحجة أنهم يريدون هزيمة الطرف الآخر لتبدأ حفلة المفاخرة بإنجازهم. غير أن واقع الحال يقول إن ذلك أمر يصعب تحقيقه بصورة مستمرة. بعبارة أخرى هي سياسة لا يحالفها النجاح دائماً. فلاحظ د. فيشر أن الإنسان إذا ما أراد تحقيق نتائج مذهلة في نقاشاته ومفاوضاته فينبغي أن يكون «ليناً على الناس وقوياً على المشكلة». ولذا فإن تجاربه وأبحاثه تمخضت عن المبدأ الأول وهو ضرورة «التفريق بين الأشخاص والمشكلة». وهذه برأيي هي مشكلة المشاكل في أحاديثنا العربية، حيث إننا نركز على من القائل وننسى فحوى ما قاله من درر أو نقاط قد نستفيد منها ونقلب الطاولة. و«الحكمة ضالة المؤمن» كما جاء في الحديث الشريف.المبدأ الثاني البناء الذي لا ننتبه إليه وهو ضرورة «التركيز على دائرة الاهتمامات المشتركة، وليس موقفنا الحالي من المشكلة». حيث لاحظ البروفسور فيشر أنه عندما يستميت أحدنا في الدفاع عن تحقيق أمر هو في الواقع ليس من صلب القضية، فإن هذا الأمر يتحول تلقائياً، من دون أن نشعر، إلى مسألة أساسية نتشبث بها. والأعجب أن هذا الأمر الفرعي قد يكون هو القشة التي قصمت ظهر البعير أو بالأحرى التي «فركشت» الصفقة برمتها.ومن البديهيات التي قد ينساها المتفاوضون «الإصرار على استخدام معايير موضوعية» (ثالثاً). فحينما يدخل أحدنا بمطالب مزاجية وغير عقلانية فإنه يزعزع قوته التفاوضية. أما المبدأ الرابع فهو «ابتكار حلول للاستفادة المشتركة بين الطرفين» وهو أسلوب نؤلف به قلب الطرف الآخر ونجذبه باتجاهنا ذلك أنه صار يرى حلولاً مبتكرة لم تخطر على باله وتلبي جوهر مطالبه.المبدأ الأخير، وهو ما نمارسه في الصفقات وفي الأسواق كأفراد حينما ندخل إلى متجر ونحدد في أذهاننا سقف المبلغ الذي سندفعه. هذا ما يسمى بمبدأ «باتنا». وهي منطقة غامضة لطرفي الصفقة، فالمشتري لا يعرف على وجه اليقين أدنى سعر يمكن أن يقدمه له البائع ولا البائع يعرف بشكل حاسم أقصى مبلغ يمكن أن يدفعه المشتري. هذه هي منطقة «باتنا» وهي اختصارات للحروف الأولى من مبدأ «أفضل بديل لما يتم الاتفاق عليه». فلا يعقل مثلاً أن يقبل المتقدم للوظيفة بأول راتب يعرض عليه في مقابلة وظيفية، من دون أن «يحاول» رفع السعر مستنداً على حجج وجيهة. وكثيراً ما ينجح المشترون حول العالم لأنهم أدركوا أهمية المحاولة للوصول إلى أدنى سعر يمكن أن ينزل إليه البائع والعكس صحيح.صحيح أن كتاب روجر فيشر «Getting to Yes» من أشهر وأهم الكتاب في مجال التفاوض البناء، ويعرفه جيداً الدبلوماسيون والسياسيون ورجال الأعمال، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن التفاوض مسألة معقدة وأكثر تحدياً من وصفة. ولهذا يستعان دائماً «بصديق» أو بشخص كفؤ يستطيع أن يحقق بمهاراته التفاوضية أفضل مكاسب ممكنة للطرفين، من دون أن يهدم الصفقة برمتها. وقد ضاعت قضايا عديدة في أمتنا لأن المفاوض لم يكن على مستوى الطموحات.
مشاركة :