في هذه الأوضاع البائسة والأليمة التي تعاني منها الأمة العربية في معظم أقطارها، لأسباب داخلية؛ أهمها سيادة الجهل، والفقر، والأمية، والطائفية، والقبلية، التي تؤدي إلى الحروب الداخلية، ولأسباب خارجية؛ أهمها التآمر الدولي المتصهين بهدف إزالة صفة الدول الحديثة عن أقطارنا العربية، وفي ظل المحاولات الدؤوبة لتقسيم الوطن العربي إلى (سايكس- بيكو) جديدة، نصبح في هذه المرحلة التاريخية التي نحن فيها خارج التاريخ، في أمس الحاجة إلى التنوير وإحياء العقل التنويري. لذلك سنتحدث عن أهم رواد الحركة التنويرية العرب، الذين تركوا بصمات خالدة في تاريخ الوطن العربي، وأولهم الشيخ الإمام محمد عبده 1849-1905، وقد تأثر به كل من: عبدالرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، وسعد زغلول، وعز الدين القسام، وطه حسين، وحافظ إبراهيم. ولد في مصر، وتوفى فيها في عمر 57 سنة، إثر معاناته من مرض السرطان، فقيه ومجدد أزهري من أهل السنة والجماعة، ومن دعاة النهضة، والاجتهاد والتجديد، وتحرير العقل من الجمود، من مؤيدي التصوف الذين يرون أنه يربي النفس ويعلم الأخلاق. التحق بالأزهر الشريف 1866، وعمل مدرساً للتاريخ 1879، واشترك في ثورة أحمد عرابي ضد الإنكليز، وحكم عليه بالسجن ثم النفي إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات، وعاد من المنفى بعفو من الخديوي توفيق، بعد أن اشترط عليه (كرومر) عدم التدخل في السياسة، فقبل، وهذا في اعتقادي أفضل ما فعله المعتمد البريطاني، لأنه جعل عبقرياً مثل الشيخ محمد عبده في خدمة العامة، ففي 1889 عين قاضياً لمحكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين، وأصبح مستشار محكمة الاستئناف، وفي 1899 أصبح مفتي الديار المصرية لمدة ست سنوات، وأسس جمعية إحياء العلوم العربية لنشر المخطوطات، ومن أهم مؤلفاته: رسالة التوحيد، وشرح نهج البلاغة للخليفة الإمام علي، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، وله أكثر من 900 فتوى في الأمور المالية والاقتصادية والاجتماعية والأسرية. ومن بعد الشيخ، يأتي رفيق الدرب قاسم أمين 1863-1908، الذي ولد في مصر وتوفي فيها، أديب ومصلح اجتماعي ومؤسس الحركة الوطنية، ورائد حركة تحرير المرأة، كان يؤمن بأن تربية النساء هي أساس كل شيء، عاش 45 عاماً فقط، ويقال إنه مات مسموماً، حيث كانت وفاته فجأة أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في أحد الأحزاب المصرية، ومن أهم مؤلفاته: المصريون 1898، تحرير المرأة 1899، المرأة الجديدة 1901، ومن أقواله المأثورة: (الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيراً ولا تعلن عن نفسها)، (في الأمة الضعيفة المستعبدة حرف النفي «لا» قليل الاستعمال). وهو من أكثر الرواد التنويريين الذين لاقوا هجوماً عنيفاً في حياته وبعد مماته وحتى اللحظة هذه، بسبب آرائه الثورية في تحرير وتعليم المرأة، ونظرته الجريئة للحجاب. ونقول لمن يهاجم الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، إنه لولا أفكارهما لما التحقت أي فتاة بالمدارس، ولما تعلمت أي امرأة القراءة والكتابة، ولما دخلت المرأة مجال العمل في أي ميدان، ليس في مصر وحدها بل في الوطن العربي أجمع، حيث كانت الدولة العثمانية تبسط هيمنتها. ومن رواد التنوير العظماء العربي العروبي العلامة عبدالرحمن الكواكبي 1855-1902 الذي ولد في حلب وتوفي في مصر، في عهد الدولة العثمانية، ومن أهم كتبه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، مؤسس الفكر القومي العربي، اطلّع على تجارب دول عدة منها الهند والصين وسواحل أفريقيا وآسيا، ثم توجه إلى مصر التي لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبدالحميد الثاني، وقاوم الاستبداد العثماني، وقُتل مسموماً في القاهرة من فنجان قهوة بتآمر من السلطان العثماني. وكتب حافظ إبراهيم على قبره: هنا رجل الدنيا هنا مهبط التُقى هنا خير مظلوم هنا خير كاتب قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي وكم نحن الآن في أمس الحاجة إلى أمثال رواد التنوير، وإلى أفكارهم التجديدية الخلاّقة المبدعة. لعل وعسى تنهض هذه الأمة من الرماد.. كطائر العنقاء. aalsaalaam@gmail.com
مشاركة :