الحكومات تعوّل على منابر إعلام خاصة للتحدث بلسانها | أحمد جمال | صحيفة العرب

  • 10/9/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مازالت الصحف الرسمية تتعامل بعقلية الماضي دون تطوير من نفسها وقدراتها وعناصرها البشرية، لذلك اتجهت الحكومات إلى منصات أخرى أقرب للجمهور وأكثر قدرة على التأثير في الرأي العام فالصحف الرسمية قابعة في الماضي، والخاصة نشأت على الحداثة التي ينشدها الشارع، ولم يكن هناك بديل عن غلق هذه الفجوة، إلا باستبدال المنبر الرسمي بالخاص. اعتمدت العديد من الحكومات العربية حتى السنوات القليلة الماضية على جريدة رسمية أو أكثر، تتحدث باسم النظام أو قريبة منه، أو معبرة عن توجهاته، ويتعامل الناس مع ما تبثه من أخبار وموضوعات على أنها رسائل حكومية مباشرة، لكن المعايير تغيرت الآن وأصبحت المنابر الخاصة أكثر قدرة على الترويج للحكومة. وأصبحت المنابر الإعلامية الحديثة التي يطغى عليها الطابع الرسمي أكثر تأثيرا من الصحف الحكومية نفسها بمرور الوقت، وهي المتحدثة بلسان السلطة وتصل برسائلها للجمهور وتقوم بالترويج للحكومة. ويرتبط التغيير الجذري في علاقة بعض الحكومات العربية بالصحف الرسمية، بأن الأخيرة ما زالت تتعامل بعقلية الماضي دون تطوير من نفسها وقدراتها وعناصرها البشرية، وتتذرع بالرصانة والدبلوماسية للبقاء على جماهيريتها. وأدركت دوائر سياسية أن الصحف الحكومية غير قادرة على مجاراة عصرنة المجتمع، فالرصانة والهدوء والأسماء اللامعة من الكتاب والقامات الصحافية، لم تعد كافية للتأثير في الشارع والحفاظ على مكانة الجريدة عند الناس. وفرضت التحديات الداخلية التي تواجهها بعض البلدان، أن تتخلى حكومات هذه الدول عن مخاطبة الجمهور برسائل تقليدية، وفضّلت التحدث إليه بنفس أسلوبه وطريقة تفكيره لمجاراة المتغيرات التي طرأت على التركيبة السكانية، بالميل إلى الشعبوية أكثر من النخبوية، وهو ما لا يتفق مع السياسة التحريرية السابقة. أمام هذه المعادلة الصعبة، وجدت بعض الحكومات نفسها أمام مأزق كبير، فالصحف الرسمية قابعة في الماضي، والخاصة نشأت على الحداثة التي ينشدها الشارع، ولم يكن هناك بديل عن غلق هذه الفجوة، إلا باستبدال المنبر الرسمي بالخاص. ويبدو المشهد أكثر وضوحا في مصر، حيث أصبحت صحيفة “اليوم السابع”، تحتل مكانة الأهرام العريقة التي كانت تمثل للسلطة قوة ناعمة ووسيطا عقلانيا بين الحكومة والشارع، ويلجأ إليها الناس وحدها لمعرفة توجهات الدولة. وأصبحت “اليوم السابع” متحدثة بلسان الحكومة، لدرجة أن الكثير من الجمهور يعتقد أن الخبر إذا لم يُنشر في موقعها أو بجريدتها، فإنه مشكوك في صحته، ولو نشرت معلومة مثيرة على لسان مصدر مجهول، فإنها حقيقية 100 في المائة. وإذا كانت الأهرام تابعة للحكومة بشكل مباشر ومعلن، فاليوم السابع باتت جزءا من إعلام الدولة، حيث تمتلكها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وتمتلك أيضا معظم المؤسسات الإعلامية حاليا. ويبرز الفارق عند مطالعة موقع اليوم السابع، مقارنة بأي إصدار إلكتروني تابع لمؤسسة صحافية حكومية، ويمكن بسهولة الوقوف على أسباب الشعبية، وتركيز الاعتماد على الصوت الخاص ليحل مكان الرسمي في مخاطبة الشارع وتوصيل رسائل الدولة. وعندما قررت الصحف الحكومية اقتحام عالم الصحافة الرقمية، بدأت بشكل نمطي وتقليدي يخلو من الإبداع والتفرد لأسباب ترتبط بالترهل الإداري وعدم الاقتناع بما يسمى “صحافة العصر” وقررت التعاطي مع الحداثة بعقلية الماضي. وجاءت انطلاقة الصحف الخاصة قوية وذات تأثير وبأحدث التقنيات مع التطوير المستمر في الأداء وطريقة عرض المحتوى، ما دفع الأغلبية للجوء إليها وهجرة نظيرتها الرسمية، واضطرت الحكومة لتغيير وجهة إعلامها ولتختار منابر خاصة تتحدث بلسانها بحكم أنها الأكثر جماهيرية. ومازالت أكبر أزمات الصحف الحكومية (القومية) في اعتمادها على آليات ترقي وتوظيف غير مهنية، وهذا يتناقض كليّا مع تطورات الإعلام، من حيث الاهتمام أولا وأخيرا بالاحتراف، ما سحب من رصيد الجرائد الحكومية لصالح نظيرتها الخاصة التي صارت أكثر تأثيرا وحضورا وثقلا جماهيريا. معضلة الصحف الحكومية أنها تعتمد على رصيدها التاريخي وأنها تحتل مكانة استثنائية عند الشارع والسلطة، بغض النظر عن مواكبة العصر والاتجاه إلى مجاراة الحداثة، ولم تدرك أن إصدارات ناشئة تجاوزت شعبيتها، لم يكن لديها لوقت قريب أي رصيد. ويرى متابعون أن الحكومة تتحمل الجزء الأكبر من تهاوي سمعة ومكانة الصحف العريقة، مقابل تصاعد جماهيرية منابر خاصة لم يتجاوز عمرها عشرة أعوام، فهي التي اعتمدت على أهل الثقة وأبعدت كفاءات وأهدرت قدرات بشرية هائلة، كان الاعتماد عليها كفيلا بأن تظل المؤسسات القومية في صدارة المشهد، دون أن تُستبدل بصحف حديثة العهد. وينتمي الكثير من قيادات صحف خاصة كبرى أصلا إلى مؤسسات حكومية. فخالد صلاح رئيس تحرير اليوم السابع، أحد أبناء مدرسة الأهرام، ومحمود مسلم رئيس تحرير الوطن كذلك، وبالتالي فمعيار الجماهيرية يرتبط بعقلية الإدارة ولا يعتمد فقط على تاريخ وعراقة الصحيفة. وقال مسعد صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، في تصريحات لـ”العرب”، إن الحكومة أصبحت تبحث عن المنبر المؤثر، بغض النظر عن طبيعة الملكية، وبدأ ذلك من خلال تحول منصات التواصل الاجتماعي إلى منابر إعلامية جماهيرية، فاتجهت مؤسسات عدة لمخاطبة الناس من خلالها، ثم انتقلت إلى الصحف الخاصة الأكثر شعبية لتختارها متحدثة بلسانها. وأضاف، أن اليوم السابع تخاطب جمهور الشبكة العنكبوتية، بينما الأهرام ما زالت تستهدف النخبة، والحكومة لا تريد ذلك، بل تبحث عن منبر يوصل صوتها إلى الجميع، الشباب وكبار السن والنخبة، وبالتالي لم تعد الملكية المعيار الذي يحكم علاقة السلطة بالصحافة، بل من هي المؤسسة التي لديها مهارة التواصل مع كافة الفئات. وتشير شواهد كثيرة إلى أن الحكومة لم تعد تتعامل مع صحفها الرسمية باعتبارها ظهيرا سياسيا، فلا يزال موقع صحيفة الأهرام معطلا حتى الآن بذريعة تأمينه ضد محاولات اختراقه، ما استفادت منه اليوم السابع لتكريس حضورها كمنبر للسلطة، وبدأ الناس أنفسهم يشعرون بذلك. وسبق أن أشاد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال لقائه مع ممثلي الإعلام الأجنبي بمؤتمر شرم الشيخ قبل عامين، باليوم السابع، وقال آنذاك، إنها أساس ضخ المعلومات الحقيقية في مصر والمنطقة العربية، وأنها مصدر هام للإعلام الخارجي. وتعكس الإشادة الرئاسية، أنه أصبح بالنسبة للحكومة وكالة أنباء رسمية تخاطب بها الداخل والخارج، وليس مجرد إصدار صحافي صار بديلا عن المؤسسة الرسمية العاجزة عن اللحاق به، والحفاظ على مكانتها عند الشارع والسلطة. ويبدو أن الحكومة أصبحت تعتبر الصحف الحكومية عبئا ثقيلا دون جدوى، فهي تحتاج إلى منابر شابة تُخاطب الجمهور الذي أغلبه من الشباب (60 في المئة من السكان)، بحيث يكون ذلك بأقل تكلفة مع توافر عنصر الولاء، وطالما أن هذا موجود في إصدار واحد، فلا حاجة لإنفاق المليارات سنويا على مؤسسات ترهلت وفقدت التأثير. وحتى المزايا التي كانت تُمنح لصحف عريقة كالأهرام، تراجعت للحد الأدنى، فأغلب البرامج التلفزيونية بالقنوات الخاصة التي صارت مملوكة للحكومة تسلط الضوء على ما تنشره اليوم السابع أولا، وإذا نشرت تحقيقا أو انفرادا صحفيا يتم الإشادة به، ولو نقلت عن أحد الوزراء تصريحا يُذاع في النشرات الرئيسية للقنوات. وانعكس تحوّل الجريدة الخاصة من منبر إعلامي إلى لسان للحكومة على الصحافيين أنفسهم، فغير مسموح لهم بكتابة نقد لمؤسسة رسمية على حساباتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، وقد تصل العقوبة إلى الفصل التعسفي، في حين قد تجد زملاء لهم بمؤسسات حكومية ينتقدون سياسات الدولة ولا يوجهون بلوم. والميزة الأهم بالنسبة لصحافيي جريدة خاصة صارت الأقرب للحكومة، أنهم يحتكرون أهم الأخبار والتصريحات من كبار المسؤولين لينفردوا بها دون غيرهم. وقال أحدهم، لـ”العرب”، إنه عندما يُنشر اسمه باليوم السابع، فهذا يعني أن كلامه وصل لأهم دوائر الحكم، وعندما تثني عليه الجريدة، يزداد طمأنينة. وبغض النظر عن مستقبل الصحافة الحكومية وطبيعة علاقتها بالسلطة، فزيادة الاعتماد على صحافيي “اليوم السابع”، كضيوف أساسين في القنوات، واختيار بعضهم لتقديم برامج ثابتة، مقابل خواء الشاشة من أبناء المؤسسات الرسمية، فإن ذلك يكرس الاعتماد عليها لأداء مهمة الإعلام الحكومي وإزاحة نظيرتها تدريجيا من المشهد.

مشاركة :