يعكس ارتفاع نسب الطلاق في تونس، وجود عدة اختلالات ومشاكل داخل الأسر، إلا أن قرار الانفصال بالنسبة إلى الكثيرين لا يخلو من جوانب إيجابية تعود بالنفع على طرفي العلاقة وخصوصا الأبناء. تونس - كشفت آخر الإحصائيات الصادرة عن الهياكل الرسمية في تونس ارتفاع نسب الطلاق خلال الأعوام الأخيرة، ما ينذر بتفكك أسري يهدد توازنات المجتمع، حيث أشارت آخر دراسة صادرة عن وزارة العدل هذا العام إلى أن المحاكم التونسية تسجل يوميا أكثر من 46 حالة طلاق، و13 ألف قضية طلاق سنويا. وطرحت الأرقام المفزعة لنسب الطلاق في الأسر التونسية عدة أسئلة بشأن الأسباب التي دفعت إلى ارتفاعها، وما ينجر عنها من تفكك أسري، وغياب تقاسم الأدوار والمسؤوليات بين الأزواج وفقدان التوازن العائلي وما يترتب عليه من نتائج وخيمة ووضعيات اجتماعية جديدة. وحدد الفصل الـ31 من مجلة الأحوال الشخصية في تونس ثلاثة أنواع من الطلاق، وهي الطلاق بالتراضي بين الزوجين ويتم بالاتفاق بينهما، ولا يثبت هذا الاتفاق إلاّ متى تم تأكيده أمام القاضي. ويمكن أن يتعلق الاتفاق بمبدأ الفراق وبآثار الطلاق. والطلاق للضّرر الحاصل لأحد الزوجين من الآخر. ومفهوم الضرر تقدّره المحكمة حسب اجتهادها وفي ضوء ملابسات كل قضية. والطلاق إنشاء من الزّوج أو برغبة خاصة من الزّوجة. ويهدد ازدياد حالات الطلاق مستقبل الأسرة في ظل وجود تحديات اجتماعية واقتصادية ونفسية. ويرى أخصائيو علم الاجتماع والعلاقات الأسرية أن حجم الضغوطات اليومية التي يعاني منها الزوجان على تنوع أبعادها، عكر أجواء الانسجام داخل الأسر، وفرض مناخا جديدا يهدد الاستقرار والتوازن داخل الفضاء العائلي. وأشاروا إلى أن ارتفاع نسب الطلاق والعنف المسّلط على المرأة والقضايا الإجرامية داخل الأسرة تؤدي إلى التفكك الأسري على الرغم من كل المساعي للتصدي لظاهرة العنف المسلط على المرأة من خلال التشريعات والقوانين. وأفادت نزيهة العبيدي وزيرة شؤون المرأة والأسرة والطفولة السابقة، بـ”أن ارتفاع حالات الطلاق مفاده هو أن الطلاق في تونس بالقانون شأنه شأن الزواج، ولا يوجد زواج على خلاف الصيغ القانونية، ويعود أساسا إلى غياب الاستعداد النفسي والاجتماعي من الطرفين (الرجل والمرأة) للتعايش مع الحياة الزوجية، فضلا عن عدم الادراك الجيد لمفهوم الزواج وما يتطلبه من حقوق وواجبات”. وأضافت العبيدي في تصريح لـ”العرب”، “تغيب قيمة الحوار والتواصل والمصارحة بين الشريكين داخل الأسرة في ما يتعلق بالصعوبات والحلول للمشاكل التي تعترضهما”، كاشفة عن “ارتفاع نسب العنف الممارس على الزوجات خلال فترة الحجر الصحي الشامل بالبلاد والذي تضاعف 5 مرات بسبب صعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ترفع من نسق التوتر”. وأشارت إلى أن المرأة في المخيال الجماعي تبقى هي العائل الكبير في العائلة، مشيرة إلى غياب تقاسم الأدوار بين الرجل والمرأة في البيوت ما يمهد لغياب سلطة القيادة في الأسرة وتحمل المسؤوليات. كما أشارت العبيدي إلى ضرورة مراجعة تربوية واجتماعية وأخلاقية وقيمية للأفراد لتجنب السقوط في استسهال مسألة الطلاق ومخلفاته النفسية والاجتماعية. وأشار المختصون إلى أن هناك ضبابية تحول دون وضوح الرؤية لمسألة الزواج لدى الشباب، وتختلف القراءات بين من يعتبره عقدا مبنيا على تعاقد طرفين من أجل بناء أسرة وتقاسم الأدوار، وآخرين يعتبرونه مجرد ارتباط عاطفي أو “مصلحي” تقتضيه تطورات مراحل الحياة. ويرجع علماء الاجتماع هذه الظاهرة إلى اختلاف في الأدوار بين الزوجين ما يخلق صراعا متجددا بينهما، فضلا عن غياب التأهيل لدى الشباب القادمين على الزواج، حيث لا يزال الكثير يجهل متطلبات المؤسسة الزوجية وما تحتاجه من عوامل تضمن تواصلها بعيدا عن المطبات والعقبات. وأفاد الدكتور المتخصص في علم الاجتماع فؤاد غربالي بأنه “يمكن تفسير حالات الطلاق بالتحولات التي تطرأ على المجتمع، فضلا عن كون الزواج ليس بمؤسسة ذات أسس صلبة بل تعرف نوعا من التهاوي”. وأضاف غربالي في تصريح لـ”العرب”، “مع تواتر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أصبح الزواج لا يبنى على قاعدة مشاريع مستقبلية، بل على مشروع وشراكة قصيرة المدى، والأفراد أصبحوا يبحثون عن الحرية والحياة الخاصة أكثر من التفكير في مؤسسة الزواج”. وتابع “ليس هناك استعداد وتأهيل فردي للأشخاص لمعرفة قيمة الزواج، وأصبح الارتباط ترضية للمجتمع، بدل أن يكون قرارا فرديا مبنيا على قرار واختيار ثابتين، فضلا عن تفاقم الضغوطات الاقتصادية والمشاكل الجنسية التي تكشف عدم التوافق بين الزوجين ويتم ‘تغليفها’ بأزمات اقتصادية ومادية”. وأشار إلى غياب التواصل الفعلي بين الطرفين رغم وجود عدة أشكال للتواصل قبل الزواج، وكثيرا ما يتم فيه تغييب المصارحة والحوار الحقيقي والمصداقية بينهما، “داعيا السلطات التونسية إلى تفعيل دور العلوم الإنسانية في المجتمع لتحليل الظاهرة وفهم أسبابها”. وأفاد بأن المجتمع التونسي يعاني أزمة تواصل حقيقية خصوصا بين الأزواج وأفراد الأسر، وخلقت وسائل التواصل الاجتماعي عائلات جديدة افتراضية جعلت لكلا الزوجين عالمهما الواقعي في المنزل وعالمهما الافتراضي خارجه. وتنقسم أراء علماء النفس في المسألة بين من يرى الطلاق علامة صحية تتنزل في إطار تحولات المجتمع، ومن يرى أنه ظاهرة أصبحت تهدد كيان المجتمع التونسي أكثر من أي وقت مضى. وأفاد البشير النوري أخصائي علم النفس في تصريح لـ”العرب”، بـ”أن ظاهرة الطلاق تتزايد، وهناك من يعتبرها مؤثرة في الأسر بينما يعتبرها البعض الآخر علامة للتقدم والتطور، وهو مفهوم متداول عند النخبة المثقفة خصوصا من يتميزون بمستوى علمي وجامعي جيد”. وأضاف النوري “في بعض الأحيان يكون التأثير سلبيا جدا على فئة الأطفال بعد الطلاق ما يخلف حالة من الاكتئاب والقلق والأمراض النفسية، في المقابل هناك من يعتبر أن الطلاق يوكل لأحد الطرفين مهمة اصطحاب الأبناء معه وتخليصه من تداعيات الخلافات والشجارات العائلية”. وتلعب وسائل التواصل الحديثة وعالم التكنولوجيا دورا ملحوظا في تفكك الأسر وتصدع علاقاتها، كالخيانة والطلاق، ويحتل الوضع الاقتصادي للأسرة مكانة هامة من حيث مسببات التفكك الأسري. كما أدى الهروب من الواقع المعيشي إلى العالم الافتراضي إلى خلق عائلات جديدة افتراضيا، وأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي متنفسا للزوجين في حالة الخصام مما يسهل عليهما إيجاد البديل. كما لم ينف المختصون في المجال وجود علاقة بين تشرد الأطفال والتفكك الأسري، حيث أشارت إحدى الدراسات إلى أن أغلب الأطفال الذين كان مصيرهم الشارع، كانوا في الأساس يعانون من التفكك الأسري ومن السلوك العدواني. ويفرز التفكك الأسري حالات اجتماعية جديدة على غرار أطفال الشوارع، والأمهات العازبات والمطلقات والذين يعتبرون من الفئات الهشة، فضلا عن الانقطاع المدرسي حيث تشير الأرقام إلى وجود 120 طفلا منقطعين عن الدراسة جراء الطلاق. وتعتبر ظاهرة الطلاق مؤشرا يقاس به واقع الأسرة والمجتمع التونسي في توازنه النفسي وقوة تماسكه، وهو ما ينعكس بالضرورة على السلم والأمن الاجتماعيين. ويستدعي تفشي الظاهرة على اختلاف أسبابها المرفوقة بارتفاع منسوب العنف والجريمة والتراجع الأخلاقي والقيمي، تكاثف جهود مختلف الأطراف من مجتمع مدني وجمعيات ومنظمات بالإضافة إلى دور السلطات لمعالجتها أو للحد منها لما لها من تداعيات على تماسك العائلة والمجتمع.
مشاركة :