منذ سنوات بدت إسرائيل بمثابة المستفيد الأكبر من كل التطورات والاضطرابات والانقسامات في العالم العربي، لاسيما باختفاء الجبهة الشرقية، باختفاء الجيشين العراقي والسوري، وهي في الفترة الراهنة تبدو أكثر راحة، من أي وقت مضى، مع انفتاح مسار التطبيع بينها وبين أكثر من دولة عربية، ما يكرس مكانتها كالدولة الأكثر استقرارا وتطورا من النواحي الاجتماعية والأمنية والسياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط. بيد أن الأمر لا يقتصر على ذلك، فالتطورات الحاصلة في العالم تصب في مصلحتها، أيضا، خاصة مع انفتاح أكبر وأقوى الدول عليها، كالصين والهند وروسيا، بعد تغيير مكانتها من حلفاء تقليديين للعالم العربي إلى حلفاء أساسيين لإسرائيل، التي تتمتع بقوة مضافة ناجمة عن احتضان الولايات المتحدة الأميركية لها، كضامن لأمنها واستقرارها وتفوقها في المنطقة، بخاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتسلح، وهنا سر انفتاح الدول المذكورة عليها، رغم ضآلة حجمها وقوتها الاقتصادية بالقياس لتلك الدول. إسرائيل غير أن تلك الحال اللافتة للانتباه، والتي هي نتاج عطب في العالم العربي، وفي الوحدات المشكلة له، والتي تعمل بطريقة تنافرية أو ضدية، وليس بطريقة تكاملية، منذ عقود لا تضيف شيئا يقينيا، أو مطلق الديمومة، بالنسبة إلى مستقبل إسرائيل، التي تعيش في منطقة رمال متحركة، وحبلى بالتغيرات، في خرائطها السياسية والجغرافية والبشرية. ومثلا، فبالنسبة إلى الجيوش العربية، فقد تبيّن، منذ زمن طويل (آخر حرب عام 1973) أنها لا تشكّل مصدر تهديد لإسرائيل، وأنها لم تصنع من أجل مواجهتها، وإنما لحماية النظم القائمة، وضمنها السيطرة على المجتمعات، وحراسة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي السائد. أما اضطرابات المشرق العربي فلا أحد يستطيع التكهّن إلى أين يمكن أن تصل، أو ما هي الآفاق التي يمكن أن تفتحها، وما تأثير ذلك في إسرائيل، أو في طبيعة وجودها في هذه المنطقة. وفي الحقيقة، فإن إسرائيل منذ قيامها، قبل أكثر من سبعة عقود، ما كانت تخشى المواجهات العسكرية، أولا، بواقع تفوّقها العسكري. وثانيا، بحكم احتكارها السلاح النووي، أو سلاح “يوم القيامة” وفق تعبيراتها. وثالثا، باعتبارها تحظى بضمانة الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، لأمنها واستقرارها. في هذا الإطار، ربما يفيد أن نعرف أنه في كل الحروب فإن إسرائيل لم تشهد خرابا في عمرانها، ولا خسائر اقتصادية موجعة أو مؤثّرة في بناها التحتية، بالمقدار الذي شهدته مدن لبنان وسوريا والعراق والضفة وغزة. كما أن كل تلك الحروب والمواجهات التي دخلت إسرائيل غمارها لم تغير من معادلات الصراع القائمة، فهي لم تهدد نظامها السياسي أو استقرارها الاجتماعي، أو نموها الاقتصادي، ومستوى رفاهية مجتمعها، كما لم تهدد تفوقها العسكري. مع ذلك، ثمة لإسرائيل مخاوف، أكبر وأعقد وأعمق من مصادر التهديد التقليدية أو مصادر التهديد الظاهرة، ما يفسر استمرار وجود هذا النوع من الوعي بالخطر الوجودي، وهو وعي لا يتأتّى فقط من الأخطار الأمنية أو الاقتصادية أو القلاقل الاجتماعية، وإنما هو وعي ذاتي ساكن في الثقافة والتجربة التاريخية، والإحساس المزمن بالقلق من الآتي، ما يفسّر خشية قادة إسرائيل على دولتهم ومجتمعهم ومستقبلهم، حتى من السلطة الفلسطينية، وحتى من اتفاق أوسلو، على رغم الإجحاف الذي يتضمنه هذا الاتفاق بحق الفلسطينيين. وقد يفيد التنويه هنا بأننا لسنا إزاء قضية تشبه قضية أيرلندا، أو قضية الألزاس واللورين مثلا، ولا إزاء تجربة تشبه التجربة الاستعمارية الاستيطانية الفرنسية في الجزائر، وحتى إنها لا تتماثل مع التجربة الأقرب، أي تجربة الاستعمار الاستيطاني العنصري في جنوب أفريقيا. فالمستوطنون البيض في ذلك البلد لم يأتوا بادعاءات أيديولوجية/دينية، ولا ادّعوا أنهم “شعب الله المختار”، ولا أن هذه “أرض الميعاد”، ولم يشتغلوا على تهجير السكان الأصليين، ما يفسّر، في ما بعد، المصالحة التاريخية التي حصلت. القصد أن ثمة مشكلة وجودية لإسرائيل في هذه المنطقة، مع مقاومة، شعبية أو مسلحة أو من دون ذلك، وبغض النظر عن طبيعة علاقات إسرائيل مع العالم العربي، عدائية كانت أو تعايشية. أيضا، ثمة قائمة من التهديدات الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، على الصعيد المستقبلي، تأتي ضمنها التصدعات الداخلية العميقة، والمؤثرة، ذات المحتوى الثقافي، التي تحدد إدراك الإسرائيليين وتعريفهم لأنفسهم، والتي تنحو نحو الازدياد. يأتي ضمن ذلك الشقاق المترسخ بين المتدينين والعلمانيين، إذ لم تعد إسرائيل بمثابة واحة علمانية، أو حداثية، في شرق أوسط متديّن أو متخلف، وفق ترويجها، ودعايتها عن نفسها منذ قيامها. كما ثمة الانقسام الطائفي، أو القبلي (وفق رأي بعض علماء الاجتماع الإسرائيليين) بين الشرقيين والغربيين والروس أيضا من المهاجرين المستوطنين الجدد. وهؤلاء برزوا كمعطى جديد، مع موجات الهجرة من دول الاتحاد السوفياتي (السابق) في التسعينات، وبات لهم دور كبير في السياسة الإسرائيلية، لاسيما أنهم يميلون إلى اليمين القومي المتطرف والاستيطان ونبذ التسوية. فوق هذين ثمة، أيضا، الانقسام الطبقي مع سيادة نمط الليبرالية المتوحشة، وتآكل دولة الخدمات والرفاه وانحسار مكانة الهستدروت والكيبوتزات والتعاونيات، في مسايرة مع التوجهات الأميركية. على الصعيد الخارجي يأتي في قائمة التهديدات، أولا، وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، واستمرار كفاحه من أجل حقوقه، وخلق مسارات تعيد وحدة الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، لاسيما مع تطبيق قانون أساس (تم سنه في العام 2018)، الذي اعتبر إسرائيل كدولة قومية لليهود، بما يعني ذلك إخراج أو التمهيد لإخراج فلسطينيي 48 من إطار المواطنة في إسرائيل. إسرائيل ثانيا، ثمة ما تعتبره إسرائيل “الخطر الديموغرافي”، الناجم عن تزايد نسبة الفلسطينيين، وهو ما كان يشكّل خطرا لولا رؤيتها لذاتها كغيتو، على شكل دولة يهودية، وفقا لاعتبارات أيديولوجية وعنصرية. وتنطلق إسرائيل، في ما تسمّيه خطر “القنبلة الديموغرافية”، من إدراكها محدودية العنصر البشري في تكوينها، ونضوب مصادر الهجرة اليهودية من الخارج. ثالثا، تواجه إسرائيل مسارا من انكفاء الدور الأميركي في العالم، وخصوصا في الشرق الأوسط، إذ أن هذا التغيّر لا بد سيؤثر سلبا في مكانتها، بهذا المقدار أو ذاك. رابعا، ثمة الخطر الناجم عن تصاعد مسار نزع الشرعية عن إسرائيل بتحول الرأي العام في الدول الغربية عن مساندتها وتزايد نزعة انتقادها لمصلحة التعاطف مع حقوق الفلسطينيين، وهو مسار يشق طريقه في أوساط النخب الأكاديمية والطالبية والثقافية والفنية في أوروبا وفي الولايات المتحدة ذاتها وفي أوساط الجيل الجديد من اليهود الشباب فيها. باختصار، لا يوجد شيء إلى الأبد، لا بالنسبة إلى إسرائيل ولا بالنسبة إلى غيرها، فالمنطقة مليئة بالفرص وبالمخاطر أيضا.
مشاركة :