أثار الاجتماع الثلاثي الذي عقد في الدوحة بين وزراء خارجية أميركا وروسيا والسعودية، بعض التفاؤل بإمكان تحريك المسار السياسي السوري، وذلك على النقيض من حالة التشاؤم التي أشاعها تقرير ستيفان دي ميستورا المقدم لمجلس الأمن والذي نفض اليد من أية فرصة لحوار مباشر بين أطراف الصراع يفضي الى تسوية سياسية في المدى المنظور. لا يخطئ المتفائلون حين يهملون جهود الوسيط الأممي وما أجراه من اتصالات بدت واسعة ومتنوعة مع مختلف الأطراف، فالأمر الحاسم عندهم لا يتصل بمجلس الأمن والمؤسسات الدولية بل بما يمكن أن يحصل من توافقات بين واشنطن وموسكو حول الشأن السوري بصفتهما الطرفين الأكثر تأثيراً وقدرة على وضع حد لهذه المحنة. ويرجح هؤلاء حصول تبدل في موقف البيت الأبيض لمصلحة الاهتمام الجدي بالصراع السوري، إما بسبب تحرر أوباما من عقدة الاتفاق النووي، ليغدو أكثر استعداداً لاستثمار المهلة المتبقية من ولايته الثانية في تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن مماطلته في التعاطي الإنساني مع الملف الســوري والتي لا بد أن تلقي بثقلها على حظوظ المرشح الديموقراطي! وإما لأنه بات معنياً بإقناع حلفائه بجدوى ما قام به مع طهران، وأنه لم ينجح فقط في لجم قدراتها على إنتاج سلاح نووي وإنما يحاصر محاولاتها توظيف تداعيات الاتفاق ومنافعه لتوسيع نفوذها الإقليمي! وإما لأن السياسة الأميركية قد استنفدت حاجتها من استنزاف خصميها الإيراني والروسي في الصراع السوري وباتت أكثر حـــرصاً على التعاون معهما لمواجهة تنامي وزن التنظيمات الجهادية وخطرها. وبالتكامل يعتقد هؤلاء أن موسكو وصلت أيضاً إلى نهاية الشوط وباتت أقرب للتلاقي مع سياسات واشنطن تجاه الوضع السوري لأسباب عدة، تبدأ بالخلاص من حالة الاستنزاف التي تعانيها، مادياً وسياسياً، بخاصة أن الورقة السورية باتت ضعيفة وفقدت وزنها في المفاوضات مع الغرب، مروراً بإنقاذ ما يمكن من مصالحها في المشرق العربي مع تنامي خشيتها من فقدان كل شيء إن استمر تراجع النظام أمام المعارضة المسلحة، ومروراً بتحسبها من تقارب محتمل بين إيران والولايات المتحدة ينسجم مع روحية التنازلات التي حكمت التوقيع على الاتفاق النووي ويتوج بشراكة بين الطرفين في معالجة المحنة السورية قد لا يأخذ في الاعتبار مصالحها، إنتهاء بقطع الطريق على تداعيات التدخل العسكري التركي في شمال وشرق البلاد ومحاصرته في أضيق الحدود، والتعاون مع واشنطن للجم قدرته على إحداث تبدل كبير في توازنات القوى، أو النيل مما حققه الوجود الكردي وزناً ودوراً. وما يزيد جرعة التفاؤل أن الطرفين الأميركي والروسي متفقان على أولوية مواجهة «داعش» والمنظمات الجهادية الأخرى، وعلى الحفاظ على الدولة السورية ووحدة أراضيها، ويدركان مقدرتيهما على ممارسة ضغوط ناجعة على حلفائهما السوريين للسير في الطريق السياسي! لكن، للمتشائمين رأي مختلف، وهم يستبعدون تقدم أي مشروع لتسوية سياسية، ربطاً بخصوصية الصراع السوري الذي بات برؤوس عديـــدة يصــعب التوفيق بينها ويخوض بعضها معركته ضد الآخر كمعركة وجود وإفناء، وربطاً باعتقادهم بأن ما يثار عن تبلور اتفاق بين واشـــنطن وموســـكو لتمرير حل سياسي في سورية هو مجرد رفع عتب لتخفيف ما يتعرضان له من ضغوط أخلاقية وإنسانية! صحيح أن حاجة الأطراف الخارجية للتشارك في مواجهة تنامي خطر الإرهاب الجهادي ولتخفيف أعباءها في الصراع السوري يدفعها إلى توحيد جهودها من اجل وقف العنف والتشجيع على المعالجة السياسية، لكن الصحيح أيضاً أن قرار السير في هذه الطريق لم يعد ملكاً لأحد، بل تحكمه ارتباطات ومصالح داخلية معقدة، أوضحها رفض النظام المزمن لأي حل لا ينسجم مع رغباته وتطلعاته، ثم الوزن الكبير الذي تحوزه على الأرض جماعات إسلاموية تحكمها أجندة اقصائية، تزدري السياسة ولا تقيم وزناً للتفاوض والحلول الوسط، فكيف الحال إذا كان بعضها يعتقد ويعبئ أنصاره بأن، شام شريف، هي اليوم مفتاح انتصار الخلافة الإسلامية أو هزيمتها! يضاف إليها تنامي جماعات مسلحة من النظام والمعارضة صار دينيها وديدنها رفض تغيير ما خلقته سطوة الفوضى والسلاح من مكاسب وامتيازات، وهي لن تتأخر عن توظيف ما حازته من إمكانات لإفشال أي مشروع سياسي، إن من خلال محاصرة وضرب دعاته أو من خلال تبادل الأدوار لتسعير الصراع العسكري وإبقاء مناخ الحرب مسيطراً على الجميع. ربما يقارب الحقيقة من يعتبر اجتماع الدوحة الثلاثي مجرد محاولة لتقريب وجهات النظر بين أطراف تجمعها مواجهة الإرهاب لكنها تختلف جدياً حول إعادة رسم دوائر النفوذ في المنطقة وحول المستقبل السوري، وربما لا يجانب الصواب من يعتبر مهمة دي ميستورا بلا أظافر ولا أسنان وأنها أشبه باللعب في الوقت الضائع، بدليل التفافه على غياب فرصة لعقد «جنيف- 3» وفق بنود «جنيف- 1» بالدعوة الى تشكيل مجموعات عمل مشتركة برعاية دولية تضم اختصاصيين من السلطة والمعارضة للاتفاق على قضايا أساسية في الشؤون الإنسانية والسياسة ومؤسسات الدولة وإعادة الإعمار، تمهد لقيام هيئة الحكم الانتقالية، ولا يضعف هذا الدليل تحذير دي ميستورا بأن التصدي المجدي لـ»داعش» يتطلب تغييراً سياسياً في سورية! والحال هذه، يبدو أن الزمن السوري سيستمر عبثياً ودموياً، مع صعوبة التوفيق بين مصالح متعارضة ومتباينة تمثلها قوى عربية ودولية وفئات من النظام والمعارضة، يزيدها تعارضاً وتبايناً ما كرسه العنف المنفلت من خراب وضحايا ومفقودين ومشردين ومن نتائج مدمرة، اجتماعياً وأخلاقياً، وفي هذا الزمن تجمع غالبية السوريين حالة من الخوف والهلع على حاضرهم ومستقبلهم ومصير وطنهم، وتجمعهم أيضاً ربما أمنية بحصول معجزة، تجبر الأطراف المتحاربة على ترك ميدان العنف وتقسرهم على السير نحو معالجات سياسية تخمد بؤرة التوتر وتوقف تفاقم هذه المأساة الإنسانية.
مشاركة :