أن تعجب من كاتب موسوعي، تكونت معرفته من خلال الكتب، فهذا أمر حسن، لكنّ هذا الإعجاب، يصبح مثار دهشة متعاظمة، وأنت تقرأ في كل صفحة مما خطه الكاتب الأرجنتيني الكبير صاحب مؤلف تاريخ القراءة المعروف، شيئاً جديداً يضيف إلى عبقرية التأليف والفهم والمعرفة، من مصادر شتى ومتنوعة، هي كتابة برسم التأمل العميق، وطرح الأسئلة، واستبانة قوة العقل وقوة الخيال أيضاً. تصوروا مثلاً عبارة إن قوانين الخيال مستبدة، هي عبارة يمكن الإحساس بها، ويمكن تلمّس شعريتها في المعنى، والدلالة، ولكنها قد لا تخطر على بال كاتب، امتهن الكتابة عشرات السنوات، إلا إذا كان معنياً بتتبع تلك النتيجة التي قادت مانغويل إلى مثل هذه العبارة، قوانين الخيال تلك المستنبطة من قراءته الواعية، لنقل القراءة الثانية والثالثة، لمختلف المؤلفات والأفكار والفلسفات واطلاعه على كثير مما سطرته، قريحة المعرفة الإنسانية منذ القديم حتى وقتنا الراهن. بورخيس الأثير لمانغويل، يطل في كتاباته في كثير من المقالات، هو مثلاً بورخيس العاشق، الذي يتصوره في كثير من فصول أليس في بلاد العجائب للويس كارول التي تشكل في كتابه فن القراءة دالة مبهرة، ويسترشد بفقرات منها، يمهر بها عناوين الموضوعات التي اشتملها هذا الكتاب؛. في بورخيس العاشق مثلاً تحضر أليس في بلاد العجائب للتحدث عن الحب قالت الدوقة: والمغزى هو الحب، إنه الحب الذي يجعل العالم يدور وهناك مثلاً بورخيس الأعمى، حيث العمى بصيرة تقود إلى كشف ما وراء، وما قبل ما سطره بورخيس من عشرات المؤلفات، على اختلاف أجناسها الإبداعية. الصمت عند بورخيس، كما يصف مانغويل كان شكلاً من أشكال الكياسة تلك الكياسة التي تفسر حظه العاثر مع النساء، كما هي حاله مع الكاتبة استيلا كانتو، وهي امرأة كاتبة، تعرف إليها بورخيس وأعجب بها، وأهداها واحدة من قصصه الألف، وتلك النهاية الدرامية التي كشفت عن شهرتها الزائفة، مروراً باستدعاء المرحلة التي طبعت المشهد الأدبي اللاتيني، بظهور ما عرف بجيل القنبلة الأمريكية اللاتينية (مانويل بويغ.. 1932 - 1990). أنت دائماً أمام عبارات جديدة، عن الإثم والخطيئة، عن الغفران، عن الفلسفة، وهي تلبس ثوباً مزركشاً، فتجيء على صفحة كتابة بيضاء، توفر بضعة أمكنة آمنة، تمنحنا مأوى أثناء رحلتنا عبر الغابة المجهولة والمظلمة. والقارئ سيجد نفسه أمام عشرات الأسماء من الكتاب والفلاسفة العالميين: هنري جيمس، هربرت كوين، شكسبير، نورثروب فراي، إميل أجار، غوته، أوديسيوس، ستيفان مالارميه، دوستويفسكي، رامبو وماتشادو، والت ويتمان، وغيرهم. إضافة إلى عشرات الكتّاب الأرجنتينيين. الكلمات التي على الصفحة هذه عبارة، تشكل معنى خاصاً وجوهريا عند مانغويل، كما جاء في مقدمة كتابه التي صدرت طبعته الأولى عن دار المدى من ترجمة عباس المفرجي، وهي كلمات تقرأ حياتنا وحياة الآخرين، وتقرأ المجتمعات التي نعيش فيها، وتلك الواقعة وراء الحدود، كما يؤكد مانغويل، وتلك التي تقرأ الصور والأبنية، وتقرأ ما يكمن خلف غلافي كتاب. هي الكلمات ذاتها التي يربطها مانغويل بالتجارب والعكس صحيح، ويضرب على ذلك مثلاً بالمرض الذي أصاب سكان ماكوندو، وفرض عليهم عزلة امتدت لمئة عام، وأصابهم بفقدان الذاكرة، وحين أدركوا أن معرفتهم عن العالم كانت تختفي بوتيرة متسارعة، وأنهم قد ينسون ما تعنيه بقرة، أو شجرة أو بيت، اكتشفوا ما يشبه الترياق لحل مشكلتهم، فقاموا بكتابة بطاقات علقوها على البهائم والأشياء، هذه شجرة وهذا بيت، فتذكروا ما كان عالمهم يعني لهم، يقول مانغويل تنبئنا الكلمات بما نعتقد نحن- مجتمعاً - أن يكون عليه العالم. والكلمات أيضاً، يمكن أن يساء استعمالها، يمكن أن تكون مجبرة على إعلان الأكاذيب، أو تبرئة المذنبين، أو اختراع ماض غير موجود، ويقال لنا يجب أن نصدقه. بنى مانغول أفق كتابه فن القراءة، من خلال قراءاته المتعمقة عن هوميروس ودانتي، عن بينوكيو وكتب القصص المصورة، وبشكل خاص عن أليس في بلاد العجائب. وفي هذا الكتاب، تستوقفه الرقابة موضوعاً، كما يتوقف عند الترجمة التي مارسها، ويقدم فهمه الخاص للمكتبة المثالية، تحت عنوان فريد المكتبة المقدسة. الكتاب، جدير بأكثر من وقفة متأملة، عبر نحو أربعين مقالة، تمثل رحلة في تاريخ العالم المسرود حتى اليوم، ولنقل المكتوب والمدوّن، حتى في الجانب السياسي والديمقراطي، وذلك المفصل الذي يتعلق بحقوق الإنسان. السلطة من وجهة نظر مانغويل، يمكن أن يساء استعمالها مثلها مثل الكلمات، وبهذا الصدد هو يشير إلى عام 2009، حين أكد حائز نوبل بول كروغان في نيويورك تايمز، أنه ما لم يأمر باراك أوباما بإجراء تحقيق في ما حدث إبان إدارة بوش (ونحن لا نتوقع أن يفعل)، بحسب كروغان، فإن أولئك الذين في السلطة سيصدقون أنهم فوق القانون، لأنهم لن يواجهوا أية عواقب إن أساؤوا استخدام سلطتهم. ويربط مانغويل هذا الكلام، بما سبق أن قاله دون كيخوته: أغلب أعمال الظلم يتم ارتكابها، لأن أولئك المسؤولين عنها يعرفون أنهم لن يواجهوا أية عواقب، وهو الذي يحيل من وجهة نظر مانغويل إلى سقراط، في إشارة مهمة إلى الواجب واجب كل مواطن أن يحاول بوعي منع الأخطاء والأفعال غير الشرعية العظيمة الكثيرة من الحدوث في الدولة التي ينتمي إليها. جمع مانغويل كتابه في ثمانية أجزاء: من أنا، درس الأستاذ، مذكرة، اللعب بالكلمات، القارئ المثالي، الكتب مهنة، جريمة وعقاب، المكتبة المقدسة. الصفحة بالنسبة لمانغويل، تحيا حياة سرية، ضائعة وسط أخواتها داخل أغلفة الكتب، وفي توصيفاته للصفحة، يريد أن يصل إلى نتيجة مؤداها يفسر فعل القراءة، الذي يراه صراع قوة بين القارئ والصفحة للسيادة على النص، وهو يؤكد أن الغلبة في النهاية تكون للصفحة. والصفحة عند مانغويل تاريخ طويل منذ كتب على الألواح، وورق البردي نحو القرن السادس قبل الميلاد، حيث كانت معظم اللفائف مكتوباً عليها من جهة واحدة، هي وفقاً لبورخيس تمثل عودة إلى مكتبة بابل، وألواح الطين السومرية، وهي بالنسبة لمانغويل لحظة كابوسية غير متخيلة، حيث الصفحة في زهوها وكل رعبها، كشيء يتيح أو يطلب إطاراً للنص الذي تحويه. في كل موضوع ثقافي واجتماعي واقتصادي أو فلكلوري، وحتى يتعلق بأجناس الشعوب والأساطير الموزعة بين دفتي المنطق والخرافة، ثمة قراءة استشعارية، كاشفة، وهي سبيل مانغويل للعودة إلى فكرة القراءة التي تمثل بالنسبة له فناً ابتكارياً، هي في موضع الشاعر والإيدز طريق يؤدي إلى فن الكتابة أيضاً، ويستهله مانغويل بالحادثة المعروفة إعلامياً في نهاية التسعينات، حين أعلنت الصحف أن حكومة جنوب إفريقيا في صدد وضع برنامج لاستيراد الأدوية القليلة الكلفة لمعالجة مرض الإيدز، وفيه إشارة واضحة للشركات الاحتكارية الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية، التي عارضت القانون الإفريقي الذي وقعه نيلسون مانديلا، بحجة أنه ينتهك القانون المتعلق بحقوق النشر وبراءة الاختراع. لكن، كيف ينظر مانغويل إلى القارئ المثالي؟ هو بالنسبة إليه تماماً كما الكاتب قبل أن تتجمع الكلمات على الصفحة، وجد في اللحظة التي تسبق الإبداع، والقراء المثاليون لا يعيدون بناء قصة، إنهم يعيدون خلقها، وهم لا يتبعون قصة، إنهم يشاركون بها، والقارئ المثالي يعرف ما يعرفه الكاتب بالحدس، وهو لا يأخذ كلمات الكاتب حقيقةً مسلماً بها، وهو قارئ تراكمي وتشاركي، وهو قارئ يروق له استخدام المعجم، ولديه إحساس هائل بالفكاهة، وهو يتقاسم أخلاق دون كيخوته أيضاً، رغبة مدام بوفاري وشهوة امرأة من باث في حكايات كانتربري لجوفري تشوستر، وهو قارئ يقاسم الروح المغامرة لأوليسيس، وطبع هولدن كولفيلد بطل رواية حارس في حقل الشوفان لجي دي سالنجر. ولأن القارئ المثالي، شغوف بالكتب، يجد مانغويل نفسه مهموماً بتعريف المكتبة المثالية، التي هي مكتبة معدة لقارئ بعينه، وهي مكتبة افتراضية ومادية معاً، يسهل الوصول إليها، لا سلالم عالية، لا أرضية زلقة، لا حراس ملمّعين يقفون بين القارئ والكتب، فيها مقاعد مريحة، صلبة وبمساند وظهر منحن. وللمكتبة المثالية جدران دافئة من الآجرّ والخشب، وتحوي بشكل رئيسي - لا بشكل مطلق - كتباً فيها طوابع، لوحات، مواد، موسيقى، أصوات، أفلام، صور فوتوغرافية أيضاً... وغير ذلك الكثير. متعة حقيقية، يستشعرها القارئ في هذا الكتاب، ومؤلفه الذي سجل من قبل تاريخ الكتابة وصدر له المكتبة في الليل 2012 وتأملات قارئ شغوف في عام من القراءة 2013. بينما يُعدّ كتابه الجديد فن القراءة حصيلة مقالات ظهرت بشكل مختلف في عدد من المنشورات، أو قدمت محاضرات.
مشاركة :