أخطر ما يمكن أن يواجهه أي مجتمع كان... هو الانصراف بشكل كامل في اتجاه الماضي والانخراط في عوالمه وأيامه، وتقمصه، أو الابتعاد كليا عنه- الماضي- والتنكر له، أو معاملته بعداء وتحد. أقول هذا ونحن في مجتمعنا الكويتي، رغم ما يتميز به من ترابط واتساع مساحة الحوار، إلا أننا نلاحظ بكثير من الوضوح وجود هاتين الظاهرتين بين صفوف مجتمعنا، والغريب أنهما منتشرتان بشكل صريح وكبير بين فئات الشباب، وبأسلوب لافت للنظر. فكبار السن يجدون- مثلا- في الماضي أيامهم الجميلة التي عاشوها، ولكن الشباب لم يعيشوا هذا الماضي ولم يتذوقوا جماله. ففي جانب نرى أن النظر إلى الماضي- ونقصد هنا ماضي الأجداد بمآثره وبطولاته- يأخذ حيزا كبير من اهتمامات بعض فئات المجتمع، ليس عن طريق تذكره أو الاقتداء برجالاته- وهذا إن حدث فهو حسن- ولكن الذي يحدث أن ينسي أو يتناسى هؤلاء المنخرطين في الماضي دورة الحياة وتجددها ويحاولون استحضار الماضي، ورفض الحاضر بكل أشكاله، والدعوة الجادة إلى إتباع مسيرته في كل جوانب حياتهم، مما يدفعهم إلى معاداة الحياة الحديثة، والنظر إليها من منطلق غير مقبول بالمرة، فتراهم يعيشون قلبا وقالبا في هذا الماضي، الذي قرؤوه ولم يعيشوه، ويريدون تطبيقه على أنفسهم وعلى من حولهم من الناس، مما يجعلهم يصطدمون برفض المحيطين بهم لتصرفاتهم المندفعة إلى الماضي، وقد يؤدي هذا الافتتان المبالغ فيه بالماضي إلى التعصب أو التطرف، في حين أن الماضي- في حقيقته- حقبة زمنية مرت ولن تعود مرة أخرى، ودورنا نحن أبناء العصر، أن نتخذه مثالا أو قدوة وأن نحترم كل ما يتضمنه من أحداث بحلوها ومرها، لأن نتيجة هذه الإحداث ما نحن نعيش فيه الآن. وفي جانب آخر نرى هؤلاء الذين يرفضون حتى الاطلاع على ماضي بلادهم، والتعرف على مآثر أجدادهم، ومن ثم يحرصون على الانقطاع عنه بشتى السبل، وبالتالي تنشأ حياتهم خالية من المثل العليا، ومن التاريخ الذي يستطيعون من خلاله بناء حاضرهم ومستقبلهم، فمن لا ماض له ليس له حاضر أو مستقبل، وبالتالي فإن هؤلاء البعيدين عن الماضي والمنجذبين بقوة إلى حاضرهم، من دون جذور تتعمق في التاريخ، فهم مسوخ لا يمكن أن يعتد بهم في بناء أوطانهم، وستكون انتماءاتهم الوطنية واهية، لأنهم يتنكرون لتاريخهم، الذي صنعه الأجداد، ومن ثم يحاولون السير في الحاضر من دون مرجعية تدلهم على الطريق الصحيح. وما أود قوله أن طريق الماضي يجب أن يكون مفتوحا لمشاعرنا وأذهاننا، ويجب ألا نتنكر له، لأنه هو الذي سيصل بنا إلى الحاضر والمستقبل، من خلال قراءة أحداثه قراءة سليمة، والاستفادة من تجاربه، وفي الوقت نفسه لا نتقمصه وننسى عصرنا الذي نعيش فيه وننصرف إليه بكل مشاعرنا كي لا يكون هاجسا يسيطر على تحركاتنا ولا يدفعنا إلى تقبل الحياة بكل ما تحتويه من تطور وتجدد وتتغير. كما أن تجاهلنا للماضي، واعتباره فترة زمنية مرت، ولا يجب تذكرها، أو البحث فيها، فهذه دعوة إلى التخلي عن الهوية، والعيش من دون جذور أو انتماء. * كاتب وأكاديمي في جامعة الكويت alsowaifan@yahoo.com
مشاركة :