الأصل أن الدولة يحكمها قانون واحد، ينظم كل شؤون الموضوع المراد تنظيمه فلديها قانون مدني واحد، أو قانون تجاري واحد، وقانون عقوبات واحد. ولكن هل يمكن أن تتعدد القوانين (أو الشرائع) في الدولة الواحدة التي تنظم موضوعاً واحداً؟ الإجابة على ذلك أنه، بالفعل، هناك نظرية أخرى وهي نظرية «تعدد الشرائع» وتعني تعدد القوانين والتشريعات التي تنظم القضية أو المسألة الواحدة في بعض النظم القانونية المقارنة، فيُصدر المشرّع قانونين أو ربما أكثر لتنظيم القضية نفسها، وربما تكون لكلا القانونين مرجعيات فكرية مختلفة بتاتاً، ونعتقد أنّ ذلك إنما يرجع إلى عاملين:1- العامل الجغرافي أو الإقليمي: وفي هذا السياق تجد قانونين ينظمان مسألة واحدة، فكل إقليم يتمتع بمعالجة قانونية مختلفة عن الآخر، وأبرز نماذج هذه المعالجات ما نجده في بعض الدول المركبة كالولايات المتحدة الأمريكية، فلكل ولاية قانونها الخاص، وإن كانت في المجمل تخضع للنظام الأنكلوأمريكي كمرجعية فكرية. وفي كندا فإن نظامها القانوني متعدد حيث اقليم الكيبيك الذي يعتمد القانون المدني وفق المناهج اللاتينية الفرنسية بخلاف باقي أقاليم كندا التي تعتمد المدرسة الأنكلوسكونية. وكذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة حيث تتمتع كل إمارة بقانونها الخاص، مع العلم أن ذلك لا يمنع من صدور قوانين فيدرالية أو اتحادية تطبق على جميع الإمارات دون استثناء. ولا يقف الأمر عند التشريعات المكتوبة فحسب، بل انه حتى في الدول الموحدة، فقد تنظم الأعراف والممارسات المعتادة مسألة من المسائل في إقليم معين، على خلاف المعالجة العرفية في إقليم آخر، فالعرف يتبّدل بطبيعته من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر.2- العامل الشخصي أو المذهبي: وفي هذا السياق تجد قانونين في الدولة الواحدة، ينظمان المسألة نفسها بناءً على أسس دينية أو مذهبية في غالب الأحيان، ومثالها قوانين الأحوال الشخصية والأسرية، حيث تجد في الدولة الواحدة قانوناً خاصاً بأحكام الأسرة من زواج وطلاق والتزامات أخرى مترتبة على عقد الزواج الخاص بالمسيحيين، وقانون آخر ينظم المسألة ذاتها عند المسلمين، وقد تتعدد القوانين بناءً على الفرق المذهبية والاختلافات القائمة بينها مثل صدور قانون الأسرة السني وقانون الأسرة الجعفري على سبيل المثال في دولة من الدول.في قبالة مذهب تعدد الشرائع والقوانين في الدولة الواحدة، ثمة اتجاه آخر يرفض هذه الفكرة ويدعو إلى تكريس مبدأ «وحدة القانون» أو «وحدة التشريع»، مستنداً على أسباب عديدة منها أن القانون الواحد يكون جامعاً للهوية الوطنية، فضلاً عن سهولة تطبيق أحكامه في الواقع العملي، فلا يؤدي إلى التشتيت بين قوانين متعددة. غير أن السؤال الجوهري الذي يجب الإجابة عليه قبل القول بمبدأ «وحدة القانون»: كيف يمكن للقانون الموحد أن يستوعب التعددية الثقافية والمذهبية في الدولة الواحدة؟ وماهي الآليات التي يجب أن يسير على هديها في صياغة هذا الاستيعاب؟ وهل يعني الاستيعاب – وفق هذا المدلول – تذويباً للهويات المتعددة؟ وهل هذا المبدأ شرط في إقامة دولة المواطنة؟ أياً كانت وجهة النظر على المستوى الوطني فإن القانون ينبغي أن يضع في اعتباره سياقات ثقافية محددة ينبغي مراعاتها.أما على المستوى الدولي، فقد وجدت فكرة تذويب الهويات تحت طائلة وحدة القانون، صدىً أيضاً في قاعات المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها. حيث نلاحظ وجود اهتمام دولي كبيرة بإصدار مجموعة من «المعايير الدولية» التي تنظم كل قطاعات الحياة، سعياً نحو توحيد المعالجات القانونية قدر الإمكان، ما أفرز ظاهرة يمكن تسميتها بـ«تضخم القانون الدولي». إنّ توحيد المعايير والممارسات ليس بالضرورة أن يكون تعبيراً عن المعالجة الأفضل، فقد تحمل تلك المعالجات -في بعض الأحيان– إرثاً ثقافياً خاصاً بجماعة معينة أو أمة محددة. حيث تشارك عادةً الدول الفاعلة في صياغة تلك المعايير دون الأخرى، وهذا لعمري من أبرز أوجه النقد الذي يوجهه بعض الباحثين في الغرب لهيكلية القانون الدولي المعاصر.خبير قانوني
مشاركة :