غني المطرب الشعبي أحمد عدوية أوائل سبعينيات القرن العشرين أغنيته الشهيرة "زحمة يا دنيا زحمة" من كلمات الشاعر حسن أبوعتمان وألحان الموسيقار هاني شنودة، مع بداية الانفجار السكاني الذي بدأ يضرب مصر بكل سوءاته منذ تلك الحقبة.ورغم أن عدد سكان مصر وقتها لم يتجاوز حاجز الـ ٤٠ مليون نسمة، إلا أنها كانت بداية إحساس المصريين بـ"الزحمة" وسلوكياتها وأمراضها الاجتماعية التي أثرت بشكل مباشر في النسق الأخلاقي للمتزاحمين في الشوارع ووسائل المواصلات وغيرها من أماكن التجمعات.تفاقمت الأزمة السكانية، وأصبحت المشكلة الرئيسية على مائدة كل الحكومات المتعاقبة، إلا أن المصريين لم يقتنعوا بكل حملات التوعية التي تبنتها الدولة للحث على تنظيم الأسرة، وراحوا يسخرون من الإعلانات التليفزيونية التي تدعو لتنظيم النسل، حتى اصطدم المجتمع بمأساة ضياع كل فرص التنمية بفعل الزيادة السكانية المضطردة.فشلت كل الحكومات في ضبط معدلات الزيادة السكانية، بفعل تجاهل المواطنين للمشكلة ورفضهم الاعتراف بكونها أحد أهم التحديات التي تواجه الدولة، لاسيما وأن قدرات أي دولة تتراجع أمام التهام هذه الزيادة غير المقننة لثمار التنمية الاقتصادية وتجعل تقدم المجتمعات بالسالب في أغلب الأوقات. استمرت المشكلة في النمو ولم تعد مسألة تنظيم النسل مرتبطة بالعامل الاقتصادي للبلاد ومستوى معيشة المصريين فقط، وإنما تجاوزتها للشعور بالأمان وأصبحت الجريمة بكافة أشكالها أبرز مظاهر الزحمة الخانقة، وازدهرت جرائم التحرش التي لم يعرفها المجتمع قبل عقود قليلة.ازدادت الحوادث والظواهر السلبية طرديا مع كل زيادة سكانية، وأصبحنا نستيقظ كل يوم على جريمة كبرى، كان يشهد المجتمع مثلها كل عدة سنوات.عرف المصريون في القرن الماضي "ريا وسكينة"، وظلوا يرددون حكاية خطف الستات سنوات وسنوات، ثم تناقلوا أخبار "خط الصعيد"، ومن بعده تابعوا حوادث وقضايا مختلفة كـ"سفاح المعادي" و"سفاح كرموز" و" فتاة العتبة" وشركات توظيف الأموال، وغيرها من الجرائم الشهيرة التي كانت تهز كيان المجتمع على مسافات زمنية متباعدة.اليوم مع القفزة الهائلة في التعداد السكاني، تتكرر كل هذه الجرائم التي شهدتها مصر خلال قرن كامل من الزمان، في عام واحد تقريبا، ولم تعد الجريمة الواحدة تستغرق سيرتها مع الناس أكثر من أسبوع لتفسح المجال لجريمة أخري أنكي من سابقتها.بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الأخيرة، فإن عدد السكان في مصر تخطي حاجز الـ 101 مليون نسمة، وبحسبة بسيطة هناك 177 فردا يولدون كل ساعة بواقع 3 أطفال كل دقيقة، طفل كل 20 ثانية.تخطي التعداد السكاني مستوى "الزحمة" ووصل لمستويات خانقة، فاختفي الود والتآلف حيث لم يعد هناك ذلك البراح النفسي للتفاعل بإيجابية مع الآخرين، فصار العنف هو لغة الحوار السائدة بالشارع. حتى "الزحمة الافتراضية" على مواقع التواصل الاجتماعي أفرزت منشورات العنف والتنمر، في جو يتصارع فيه الناس على عدد "اللايكات" و"الشير" واتصف معظم الرواد بالجرأة التي تصل إلى حد القباحة، أو بالعنف اللفظي الذي لا يتورع صاحبه عن سب الآخرين دون أن يلقي بالا لتأنيب ضمير، طالما وفرت له "الزحمة" الإفلات بأفعاله.الشاعر حسن أبوعتمان الذي صار فيما بعد أشهر كتاب الأغنية الشعبية، كتب أغنية "زحمة يا دنيا زحمة"، داخل الحجز في أحد أقسام الشرطة، ليعبر عن "خنقة التخشيبة"، ولم يكن يعرف أننا جميعا سنعاني من نفس الخنقة في شوارعنا وحياتنا بفعل الانفجار السكاني.
مشاركة :