لا يمكن إهمال المعرض الضخم الذي انطلق حديثاً في مركز بومبيدو (باريس) تحت عنوان «حداثات متعددة». فمن خلال مئات الأعمال التي تنتمي إلى مختلف الوسائط الفنية، يسعى منظّموه إلى تقديم جغرافيا جديدة للفن الحديث تنطلق من مركزه الأوروبي لتبلغ هوامشه، وبالتالي تكشف التأثيرات والتقاطعات والتضاربات داخله وتبيّن اهتمام الطلائع الأوروبية بالفنون الشعبية والتطبيقية وبتلك التي ظهرت في مناطق مختلفة من العالم، كالشرقين الأوسط والأقصى وإفريقيا وأميركا. الصالة الأولى من المعرض تقترح مساراً مثيراً داخل حداثات القرن العشرين. وفي الصالتين الثانية والثالثة، يتبيّن كيف سجّل فنانو الطلائع قطيعة مع التقليد والقيم التي جسّدها أسلافهم عبر تبنّيهم نظرة جديدة وعودتهم إلى «البدائي». وفعلاً، عبرت النزعة «البدائية» كل الجماليات التي تطوّرت في بداية القرن العشرين، من دون أن تشكّل يوماً حركة بذاتها. فالتوحشيون والتعبيريون والتكعيبيون عثروا في الفنون الشعبية وفن الأيقونات ورسوم الأطفال والقطع الإتنوغرافية على مادّة تجديد تشكيلي وألغوا التراتبيات القديمة بين مختلف أنواع إنتاج الصور والقطع عبر إعادة تأهيلهم أنواعاً «غير فنية». ورُصدت الصالتان الخامسة والسادسة لمديح الحداثة والسرعة الذي اقترحه المستقبليون الإيطاليون ولنتائجه الفنية الخصبة خارج إيطاليا. فالتزامنية والإشعاعية والارتجاجية والتوليفية هي تيارات انخرطت ضمن موجة الانتشار الدولي للمستقبلية التي سعى أربابها إلى توسيع حقل نشاطهم ليشمل الأدب والموسيقى ومختلف أنماط الحياة. ولأن الفنانين الأميركيين لا يحتلون سوى مساحة ضيّقة داخل تاريخ الفن الحديث، باستثناء الذين شاركوا في التيارات الطليعية الأوروبية، مثل مان راي وكالدر، تحتل الصالة العاشرة أعمالاً لرواد الحداثة الأميركية، مثل موران راسِّل وستانتون مكدونالد رايت وباتريك هنري بروس وجورجيا أوكيفّي... وننتقل في الصالات الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة إلى روسيا، وإلى التيار التشييدي تحديداً الذي ارتبط بمشروع التغيير الاجتماعي الذي حملته الثورة السوفياتية. وتتجلى في هذه الصالات أصداء هذا المشروع الثوري وأشكاله في مناطق مختلفة من العالم، وخصوصاً في أوروبا، من خلال أعمال يتم داخلها توليف جماليات تشييدية طوباوية مختلفة. وفي الصالتين السابعة عشرة والثامنة عشرة، يتبيّن كيف واجه فنانو أميركا اللاتينية توجهات الطلائع الأوروبية التي استوعبوها جيداً بوضعهم الحداثة تحت شعار التمسك بهويتهم الخاصة، كحركة «الانتروبوفاجيا» البرازيلية التي شهرت انتماءها إلى الروح الحديثة الثورية لكنها لجأت في فنها إلى لغة تشكيلية تعود إلى ثقافات الهنود الحمر المحلية. ورُصدت الصالتان العشرون والحادية والعشرون لأسلوب «الفن الجديد»، علماً أن هذا الأسلوب استطاع أكثر من غيره الانتشار في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا، كما أنه ساهم في بروز وجوه نسائية للمرة الأولى في الساحة الفنية الباريسية، مثل ماري لورانسين وماريا بلانشار وتمارا دو لامبيكا. وتتجاور في الصالة الثالثة والعشرين أعمال لفنانين آسيويين عاشوا في الغرب ومارسوا الأساليب الرائجة فيه، مثل ليونار فوجيتا وتاكانوري أوغيس وزاو ووكي، وأعمال مواطنين لهم تمسّكوا بالرسم التقليدي مع إدخال بعض مميزات الحداثة عليه، مثل زانغ داغيان ووانغ ياشين وأيكيو ماتسووكا؛ أعمال تعكس الانقسام الذي شهده الوسط الفني الآسيوي حول ضرورة تبنّي مفاهيم الحداثة الأوروبية أو تأكيد هوية فنية آسيوية. وفي الصالة الرابعة والعشرين، نشاهد لوحات تنتمي إلى حركات مختلفة. وتصف هذه اللوحات عالماً مقلقاً تقطنه وجوه وأشياء ملغّزة وتنتفي فيه الصفات الإنسانية. وأبعد من اهتمام الفنانين التعبيريين والتكعيبيين بالفنون البدائية ومن الثورة التي أحدثها هذا الاهتمام بأشكال فنّهم، تسلّط الصالة الحادية والثلاثون الضوء على اهتمام السورّياليين والفنانين المحدّثين في أميركا اللاتينية (دييغو ريفيرا ودافيد ألفارو سيكويروس وجواكين تورّيس غارسيا) بالسلطة السحرية لقطع الفنون البدائية وببُعدها الطوطمي. فعلى مثال الأساطير التي تسيّرها التمائم، سعى هؤلاء الفنانون إلى خلق تعابير تترجم الوحشية البدائية التي كبتتها الثقافة الكلاسيكية. ومن أندريه ماسون إلى جاكسون بولوك، مروراً بويلفريدو لام، تلاقى فنانون من القارات الخمس في ابتكار وسائل وأشكال تستعيد العمق الأسطوري للإنسان. ونظراً إلى حيوية الفن الإفريقي الحديث، رُصدت الصالة السادسة والثلاثون لكشف مظاهر هذه الحيوية التي تتراوح بين استيحاء من الفنون التقليدية، كالفن المأتمي أو الفن العلاجي، وتوظيف مبتكَر لمفهوم «الزنجية» الذي صاغه الشاعر ليوبولد سنغور، وتعكس تنوّعاً جمالياً يتضمّن أشكالاً مختلفة من التجريد والتصوير. ولأن النماذج المستوحاة من التجريد الهندسي أو التعبيري شهدت تطوّراً لافتاً خارج أوروبا بين عامَي 1950 و1970، نشاهد في الصالتين الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين انبثاق الفن الملموس الجديد وفن الحركة في أميركا اللاتينية، وظهور تجريدٍ تعبيري فريد في الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية يتميّز بانتفاء الأشكال فيه أو بسعيه خلف جمالية العلامة ويتغذّى من مراجع محلية كالعربسات أو فن التخطيط. ومن الفنانين العرب الحاضرين في المعرض: اللبنانيون شفيق عبود وعارف الريّس وهوغيت كالان، والمصريان جورج حنا صبّاغ وحسن فتحي، والجزائريون عبد القادر غلماز وزليخة أبو عبدالله وباية محي الدين، والمغربيان فريد بلكاهية وأحمد الشرقاوي. ولا يهمل المعرض تطوّر فن التصوير الفوتوغرافي الذي ارتبط بتطور آلاته وأجبر المصوّر على إعادة التفكير بالرؤية ضمن علاقتها بالأبعاد الثلاثة للفضاء الإقليدي، ولا يهمل تطور فن الهندسة في اليابان وأميركا اللاتينية أولاً حيث تأثر بالازدهار الاقتصادي والصناعي وبقي تحديثيّ النزعة، ثم في الهند التي شهدت بعد الاستقلال مرحلة حادة من التأمل في كيفية تشييد المدينة الحديثة ضمن علاقة وثيقة مع محيطها الطبيعي والثقافي. وأخيراً في دول حوض المتوسط حيث ساهم الاستعمار الأوروبي في ابتكار «هوية» متوسطية وفرض نظرة مبسّطة على اختلاط الشعوب وتهجين الثقافات، ما يفسّر تجاوز الهندسة الحديثة في المغرب العربي والشرق الأوسط الاختلافات بين شرق وغرب عبر إعادة توظيفها أشكالاً وتقنيات تشييدية قديمة داخل مشاريع هندسية جديدة.
مشاركة :