صدر حديثاً في سلسلة "عالم المعرفة" كتاب "الحداثة والتحديث في دول الخليج العربية منذ منتصف القرن العشرين"؛ لأستاذ التاريخ الحديث في جامعة الكويت عبد المالك خلف التميمي. ويرصد الكتاب أهم التحولات التي شهدتها دول الخليج منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين، وبخاصة العقود الأخيرة منه، ويقف أمام ظاهرة التحول من إمارات إلى دول، وهي التي تكاد تكون فريدة من نوعها، مثلما أن تركيبة دول المنطقة السكانية تكاد تكون فريدة من نوعها أيضاً. ويلقي الكتاب الضوء على مسيرة التحديث والحداثة رغم وجود الفكر المتزمت التقليدي ومؤسساته التي شكلت معوقاً لبعض مراحل تطور المنطقة. ويرى التميمي أن النفط جاء فجلب التحديث إلى المنطقة وأدى ولا يزال يؤدي، دوراً في تطورها، بيد أن هناك مشكلات أساسية نتجت عن توظيف عائدات النفط منها قيام الدولة الريعية الاستهلاكية، واستقدام أعداد كبيرة من الوافدين بحيث إن نسبة كبيرة منهم لا تحتاج إليها دول المنطقة؛ ما أحدث خللاً في التركيبة السكانية فيها. ويتناول الكاتب المشتركات الثقافية بين دول الخليج مثل التشابه والتقارب بين لهجات شعوبها ما يدل على الإرث التاريخي الثقافي الواحد، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المحدودة بين بعضها وهو أمر طبيعي حتى في الدولة الواحدة، فكيف بمنطقة مفتوحة على العالم الخارجي وبها هذا التنوع البشري من شعوب كثيرة في هذه المرحلة من تاريخها. ويرى التميمي أن النفط والتعليم عاملان أساسيان أسهما في تفكيك المجتمع التقليدي الخليجي، وبناء واقع جديد له سماته وملامحه المختلفة المتسمة بالتجديد، وقد مرَّ تاريخ النفط لدول الخليج بمراحل تحت سيطرة الشركات النفطية الأجنبية إلى أن حدث تأميم النفط وسيطرة هذه الدول على ثرواتها النفطية في منتصف سبعينات القرن العشرين. وكانت إحدى المشكلات التي واجهت دول المنطقة هي كيفية إدارة شؤون النفط في بدء تطورها وقلة كوادرها الفنية والمؤهلة، ولكن التدرج من المشاركة مع الشركات الأجنبية إلى التأميم أعطاها الفرصة لتوفير الكوادر المطلوبة. لقد كان قرار السيطرة على الثروة النفطية في تلك المرحلة قراراً سيادياً وحيوياً ومطلوباً، وقد أثبتت التجربة صوابه لما ترتب عليه من تطور حقيقي في هذه المجتمعات بعد أن استغلت الشركات الأجنبية نفط المنطقة عقوداً طويلة، في الوقت الذي كان النفط المورد الأول والرئيس لهذه الدول، وما كان في إمكانها أن تتحول إلى دول وتتطور من دون ذلك القرار التاريخي، وقد وظفت عائدات النفط في مجالات مختلفة وترتبت تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية عليها، وكان مجال التعليم في مقدمها. واهتمت دول الخليج بالتعليم لأسباب عدة؛ أولها توافر الإمكانيات بسبب عوائد النفط، وثانيها حاجة إداراتها ومؤسساتها إلى الكوادر المتعلمة، وإدراك ابعض أهمية التعليم في تحديث دولهم وتطويرها. واهتمت هذه الدول بالتعليم في الداخل وأرسلت البعثات إلى الخارج، وارتبط بالثقافة وكان أساساً نوعياً. وجعل إرسال البعثات إلى الخارج خصوصاً إلى أوروبا وأميركا، الطلاب يعيشون فترة من حياتهم في مجتمعات متطورة تسود فيها الحداثة والتطور، فكان له تأثيره المباشر في أدائهم بعد عودتهم للعمل في بلدانهم. لقد تأثروا بالنظام السائد، وجو الحرية والحياة الليبرالية، وبكل تأكيد كان لهم تأثير في نهضة بلدانهم، في وقت كانت تفتقر إلى الكفاءات وإلى مخرجات التعليم الكافية، فأدوا دوراً ريادياً لأن تعليمهم حينها كان نوعياً. وحدث ذلك مع ورود كفاءات عربية وأجنبية جلبتها دول المنطقة لحاجتها إليها في مرحلة النهضة والتطور. وأفرز أداء هؤلاء تعليماً نوعياً في البداية، لكن مع زيادة عدد السكان وزيادة دور الدولة الريعية الاستهلاكي تحول التعليم إلى تعليم كمي. وتناول التميمي الدور الثقافي الذي حمل رسائل حداثية مهد الكثير من التحولات مثل حرية المرأة وحرية التفكير، وإيجابيات تراث شعوب هذه المنطقة ممثلاً في الشعر الشعبي وشعر الفصحى والشعر النبطي، الذي سجلته المجلات والدوريات الثقافية، ودور بعض العلماء مثل حمد الجاسر في السعودية، والشعراء مثل خالد الفرج وفهد العسكر في الكويت، وإبراهيم العريض في البحرين، والكثير من شعراء عُمان. والظاهرة العامة لذلك الانتاج هي تأكيد أصالة التراث وعروبة المنطقة والنَفَس الحداثي الذي يتجاوز العادات والتقاليد في كثير منه إلى العقلانية والتطور، ومن هنا يمكن القول بأن الحداثة كانت مصاحبة للتحديث بيد أنها لم تكن بالمستوى الذي كان عليه التحديث بحكم التحول الاقتصادي الكبير والسريع والمفاجئ أحياناً. ومن الظلم القول بأن نهضة منطقة الخليج كانت تحديثية مادية فقط؛ لأن الثقافة الحداثية كان لها دورها في الشعر على سبيل المثال، والحداثة الشعرية هي ذلك الإبداع الخارج عن المألوف، والوعي جديد بمتغيرات الحياة ومستجداتها الحضارية عبر تخطي كل ثابت. ويطرح الكتاب الحداثة والتحديث في كل دولة خليجية متناولاً أبعادها المختلفة مع التركيز على أهم المحطات في مسيرة كل دولة فيها خلال الفترة الزمنية المحددة لهذه الدراسة. وتناول التميمي خطوات تحول الكويت من إمارة إلى دولة من خلال مجموعة من المقومات في مجتمع صغير وتوافر الرؤية والإرادة لدى حاكم الكويت الشيخ عبد الله السالم والنخبة التجارية المثقفة التي تعاونت معه ضمن مشاريع البنية التحتية مثل: تحلية مياه البحر، والاهتمام بالتعليم، وتوفير الضروريات الحياتية للمواطن من الإسكان والخدمات الصحية وبناء الطرق، وفي المجال الاقتصادي تأسيس البنوك الوطنية وفتح المجال أمام القطاع الخاص. وشهدت السعودية تطوراً اقتصادياً واجتماعياً منذ بداية الستينات من القرن العشرين، رغم من بقاء بعض مناطقها خارج نطاق هذا التطور والنقلة النوعية التي حدثت بعد العام 1973. كما أن السعودية ركَّزت اهتمامها عل قطاع التعليم بمختلف مستوياته، ويعد ذلك تحولاً اجتماعياً في الاعتماد على التكنوقراط من أبناء الطبقة الوسطى بدلاً من القوى التقليدية التي هي في معظمها غير منتجة وغير مهيأة للمرحلة الجديدة وما تشهده من تحديث. والمجتمع السعودي المعاصر يصارع وينافس التقليد وقد حقق في العقود الأخيرة إنجازات مهمة مواكبة للتحديث؛ لأن هذا البلد زاخر بالكفاءات والمثقفين، ويشهد تحولاً كبيراً في ثقافة مكافحة الفساد وغيرها. وقد كانت مفاجأة للمراقبين أن تكون هناك جامعة مختلطة للبنين والبنات في السعودية في عهد الملك عبد الله، وأن تمكن المرأة من تلقي الخدمات بأمر سام من الملك سلمان أخيراً، وأن نقرأ رؤية سعودية ل2030 في معرض فنى لعدد من السعوديات بعد نقلة نوعية في دور المرأة السعودية تحمل رؤية مستقبلية. أما التطور في دولة الإمارات، فارتبط بتوافر الإرادة لدى الشيخ زايد آل نهيان ليس فقط بقيام الاتحاد في بداية سبعينات القرن العشرين، ولكن أيضاً لتصبح دولة متطورة. ونجاح تجربة الاتحاد أعطى الأمل لشعوب دول مجلس التعاون بأن التوافق من الممكن أن يمتد ليشمل في المستقبل كل دول المجلس، فيتحقق الهدف الاستراتيجي الذي تحلم به شعوب المنطقة. وبشأن مسألة التنوير تستفيد الإمارات من تجارب الآخرين إذ تعج بالمؤسسات الثقافية والاقصادية غير التقليدية بما أنها مزودة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا. وضمن الرؤية التنويرية اهتمام الدولة بالمرأة وتعليمها، وتتجسد عملية التنوير أيضاً في مؤسسات المجتمع المدني، ودور الصحافة والحركة الفنية والثقافية بعامة.
مشاركة :