في عالم يزداد تغوّله ويستشرس في أحداثه ومواقفه ووقائعه؛ يبدو الاعتذار الحقيقي المفضي لتصالحات حقيقية ونبذ للعنف ودعوة للتعايش والتواد وقبول الاختلاف باختلافاته وتمايزاته دونما مصادرة هو الأنجع والأجدر بعالم يليق ببشريتنا وإنسانيتنا المهدرتين في صدامات أيديولوجية لا مسوغ لها.. لا يمكن إخفات صوت الضمير وتوجّعاته ولا تجاهل نداءات العقل الموقظة للفكر؛ طالما أنّ هناك مرجعية أخلاقية وقيمة يحتكم إليها البشر. من هنا فإنّ الشعور بالندم والأسف على ارتكاب الأخطاء والفظاعات لا يمكن كبته ولا كبحه فضلاً عن وأده. فالاعتذار، مبدئياً هو موقف شجاع وتطهيري لمرتكب الخطأ، سعياً لتحرّره من ثقل الألم، والشعور بالظلم الذي أوقعه على الغير؛ أيّاً كان هذا الغير، فرداً، أم جماعة، أو دولة. لكن الاعتذار على المستوى السياسي؛ سواء على مستوى رئيس أو حاكم أو دولة يأخذ بُعداً أنطولوجياً وتاريخياً مهمّاً؛ على سبيل المثال اعتذار البابا بينيدكت الحادي عشر عن تصريحاته التحريضية المسيئة للعقيدة الإسلامية والتي وصفها بأنّها "شرّيرة وغير إنسانية"، أو اعتذار الرئيس جورج دبليو بوش التي قدّمها عن التعذيب في سجن أبو غريب عام 2004 في ظل الإدارة الأميركية؛ إذ كانت الصور من الفظاعة والشكل المهين والمروّع الذي أعاد تجسيد الانتهاكات الجسدية والضرب والتعذيب التي كانت قد اختفت منذ القرون الوسطى؛ وقد صاحب هذا الاعتذار اعتذار للإعلام الأميركي عن التغطية الرديئة لغزو العراق. وبالرغم من أن البعض قد يستخف بهذه الاعتذارات ويراها نوعاً من الملق السياسي ونوعاً من التمثيل الواقعي للسياسة الواقعية إلا أنها علامة أمل لعالَم أكثر إشراقاً وبهاء وخيرية. وفي عالم يزداد تغوّله ويستشرس في أحداثه ومواقفه ووقائعه؛ يبدو الاعتذار الحقيقي المفضي لتصالحات حقيقية ونبذ للعنف ودعوة للتعايش والتواد وقبول الاختلاف باختلافاته وتمايزاته دونما مصادرة هو الأنجع والأجدر بعالم يليق ببشريتنا وإنسانيتنا المهدرتين في صدامات أيديولوجية لا مسوغ لها. الاعتذارات حتماً مفضية لسلام دائم ومحو للمرارات السابقة متى ما صلحت النوايا وصدقت العهود والمواثيق دون خروقات أو مغامرات سياسية مدفوعة بأطماع رغبوية وتدميرية لا مستفيد منها حتى مرتكبها. من هنا فإن السعي الغربي لتقديم اعتذارات عما ارتكبه من فظاعات وجرائم هو خطوة في الطريق الصحيح؛ وإن كانت لا تتجاوز حتى الآن المسلك التنظيري والنظري؛ ففي إصدار حديث يطرح كتاب "زمن الاعتذار" بعنوان فرعي: مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة. الكتاب يلفت إلى مبادرة بعض الدول الاستعمارية أخيراً؛ وبعد عقود من الكولونيالية الظاهرة والمستترة؛ بتقديم اعتذارات للدول والشعوب التي سيطرت عليها وارتكبته من جرائم بحق شعوب من تجارة رقيق، وتهجير إجباري، وإبادة جماعية، واغتيال زعماء من أصحاب المشروعات الوطنية، فضلاً عن نهب ثروات تلك الشعوب؛ ويتساءل المشاركون في الإصدار: ما ذا يعني الاعتذار وماذا يفيد؟ وهل هو دليل على نظام عالمي جديد يحتل فيه القانون الدولي مكانة مهمة؟ أم أنه مجرد طريق تمارس الدول الاستعمارية من خلاله المزيد من الهيمنة على الدول الأضعف؟ وهل للدول المتضررة الحق في قبول الاعتذار أو رفضه؟ وهو ما يقود إلى التساؤل حول شروط الاعتذار ومعاييره وغيرها من القضايا ذات الصلة التي يتناولها الكتاب من منظور سياسي وتاريخي واجتماعي وإنساني. وبالعودة إلى واقعنا الإقليمي المتأزّم والبالغ التعقيد تزداد هذه الأسئلة راهنية وأهمية وضرورة: حتّام يجذّف بعض الجيران ضدّ السلام والتعايش؛ والإمعان في الصلف السياسي الأرعن الذي لا يحتكم لضمير ولا سلّم قيمي ولا حتى ارتهان لوعي سياسي ناضج يّجنّبهم ويلات تلك المغامرات اللاإنسانية والمفتقدة لحقوق الجوار، ولمبادئ وأبجديات السياسة المعتدلة؟ كيف يمكن أن يُؤمن جانب من يحترف الإيذاء وتصدير الفوضى ودعم الإرهاب وشُّذاذ الآفاق؟ كيف يمكن الطمع بعالم طوباوي يعمّه الرخاء والتعايش وقبول الآخر والتماهي معه في كل ما يعود بالخير والسعادة للآخر الذي يشاطرنا الكون والفضاء؟ يبقى أن نظام إيران الثيوقراطي الفاشي مكمن الخلل وبؤرة الفساد في المنطقة؛ فالاعتداءات الاستفزازية المتكررة لجيرانها وخصوصاً المملكة؛ مؤشر خطير أن لا سلام بوجودها سيما في ظلّ تراخي دولي معيب؛ فالأعمال الإرهابية التي تستهدف المملكة العربية السعودية بين حين وآخر أو الهجمات الإرهابية، والتي كان آخرها الهجوم التخريبي لدول عربية أخرى من خلال صواريخ إيرانية الصنع ودعم للميليشيات في كل مكان لا يكفي فيه الإدانات الدولية بل يحتاج حلول جذرية رادعة وتضامناً كاملاً، فالأمن وصون السلام العالمي والطاقة لم يعد خياراً وإنما ضرورة ومطلب يتطلب من العالم أجمع تطبيقه والدفاع عنه لا كواجب أخلاقي فحسب وإنما أهمية تفوق كل أهمية وواجب يرقى على كل واجب، كما يستدعي اتخاذ خطوات حقيقية لا مواربة فيها تجاه تأديب النظام الشمولي الفوضوي الذي لا يأبه بالأعراف ولا القواعد والأنظمة والقوانين الدولية التي تكفل صون وحماية الأمن والسلم الدوليين.
مشاركة :