ولدت الرواية الإماراتية من رحم واقع متغير شهد مخاضاً عسيراً في مدة السبعينات وما قبلها، وكانت بدايتها الأولى خجولة بفعل العديد من العوامل التي يتصدّرها طغيان الشعر على المشهد الثقافي المحلي آنذاك، ثم نمت الرواية واستوت على سوقها وتطور نتاجها، وزاحمت المشهد الشعري واحتلت مكانة مرموقة في المشهد الثقافي الإماراتي. يقول عبدالإله عبدالقادر في دراسته عن الرواية الإماراتية إن المشهد الروائي الإماراتي قد شهد باستمرار محاولات التطور النوعي، خاصة في ما يتعلق بالسرد وأنواعه، أو الشخوص التي يتناولها الروائي في محاولة لتقريبها حتى في غياب أسماء بعض هذه الشخصيات مثلما يحاول البعض إلغاء الصراعات أو الوقوف دائماً مع انتصار عناصر الخير، وهذا الأمر تلقائي في مجتمع كان متصالحاً عبر الحياة البسيطة التي كانت تسود القرى التي تحولت إلى مدن عصرية كبيرة، وقد اشترك معظم كتاب الرواية في الإمارات في الاجتهاد بتطوير الزمان، والمكان وتبادلهما وعلاقتهما. وإذا عدنا إلى البواكير الأولى للرواية الإماراتية، وقاربنا مسار تطورها وصولاً إلى المرحلة الراهنة، فإننا سوف نجد أنه منذ صدور رواية شاهندة لراشد عبدالله، وهي أول رواية إماراتية، وما تلاها من أعمال سردية تناهز في مجموعها المائة، تنقص أو تزيد قليلاً، عرفت الرواية مسارات ومنعرجات كثيرة وتحوّلات لامست عمق البنية الروائية والتقنية السردية والوعي الكتابي. وإذا كانت المرحلة الجنينية للكتابة الروائية في الإمارات لم يعن أصحابها، على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم الثقافية وميولاتهم الفكرية، بنقد أو رصد المتغيرات التي طرأت على المجتمع ونحلة عيش السكان والتغيرات التي حدثت بالاتساق مع ذلك، عاكفين على مناقشة قضايا سابقة على هذه المرحلة، فإن الأعمال التالية في المشهد الثمانيني عنيت برصد المتغيّر الجديد، وذلك ما يتجلى في أعمال الروائيين علي أبو الريش، ومحمد علي راشد، وغيرهما كثير، حيث عالجت مواضيع وثيقة الصلة بالواقع الاجتماعي المحلي، ك: النوخذة، والغوص على اللؤلؤ، والعمالة الوافدة، والنفط، وعادات الزواج، كما مَتَح بعض الكتّاب من التراث ووظف قصصه ومفرداته في الكتابة السردية بوصفه ملهماً للكتابة، ويلامس شغاف الكثير من القراء. أما مرحلة التسعينات ومفتتح العشرية الأولى من الألفية الثالثة، فقد جنحت الأعمال السردية إلى التاريخ بوصفه مادة دسمة ومحورية في الكتابة الروائية، وظهرت على غرار ذلك روايات تاريخية مهمة مثل ساحل الأبطال ل (1988) لعلي محمد راشد، وروايات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى للاتحاد، حاكم الشارقة، وهي الشيخ الأبيض 1996، والأمير الثائر 1998، والحقد الدفين 2004. ويقول سموه في مقدمة الأمير الثائر: إن قصة الأمير، هي قصة حقيقية، فإن كل ما جاء فيها من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي، ولا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام، أقدمها للقارئ العربي ليطلع من خلالها على جزء من تاريخه في الخليج العربي. وثمة أعمال سردية أخرى انتهج أصحابها الواقعية محاولين الغوص في المتغيرات التي حدثت في المنطقة، ووقعها على حياة الناس، مثل: الديزل لثاني السويدي، وحلم كزرقة البحر لأمنيات سالم، وريحانة لميسون صقر القاسمي، والطائر بجناح أبعد منه لناصر الظاهري وغيرها. هذا التراكم الكمي والنوعي في الرواية الإماراتية أفسح المجال، خلال السنوات الأخيرة، لظهور أعمال سردية جديدة لعدد من الكتاب الشباب، مسكونين بهواجس ومشاغل مختلفة، إلى حد ما، عن مشاغل الجيل المؤسس ومن تلاه، كما عرفت الرواية في غمرة ذلك طفرةً عجيبة كماً ونوعاً أدت إلى تعدّد الأصوات الروائية الشبابية التي غزت المشهد الروائي، ورفدته بأعمال تختلف من حيث البناء السردي والتقنية والموضوع المطروق عن الأعمال السابقة، وهي تمثّل خطاً جديداً، أو موجة جديدة تختلف في نمط التفكير وأدوات التعبير عن التجارب السابقة، ومن بين تلك الأعمال: عشب وسقف وقمر للكاتبة خولة السويدي، وحب في الزحام، وجرف هار للكاتبة تهاني الهاشمي، وثنائية اسبريسو، والبانسيون لعبدالله النعيمي، وفاطمة ألم وأمل للكاتب والروائي سلطان حميد الجسمي، واليوم الأخير للكاتب محمد الحمادي، ومدائن اللهفة للروائية نادية النجار، وكونار للروائية هند سيف البار، وكوخ الشيطان للكاتب محمد الحبسي، وحفلة طلاق للكاتب مانع المعيني، وطرق أبواب حديدية للكاتبة فاطمة العامري وغيرها. وتُمثّل هذه الأعمال وما شاكلها، رغم التمايز في نضج التجربة، تجلياً جديداً يعكس تعلّق هذا الجيل بالكتابة والبوح بما يجيش في نفس الكاتب من هواجس وأفكار، حتى وإن خرجت عن سياق بيئته المحلية. في رواية عشب وسقف وقمر، تعود الكاتبة إلى ذكريات الجدة والعلاقة مع البحر والمطر والطبيعة، مازجةً بين الواقع والخيال، مع التعريج على قصص الحب ومغامراته، وإن على استحياء، أما تهاني الهاشمي فتقف مباشرة في وجه التيار، وتخوض غمار طرق موضوع يُصنّف عادة من المحاذير والمسكوت عنه في مجتمع محافظ، وتقول في روايتها حب في الزحام: في خضم أعباء الحياة وأشغالها، تولد نزاعاتنا النفسية والعاطفية والجسدية. قلة هم أولئك الذين يتعلمون تكنيك التجرد من تلك الأوجاع المضنية، والذهاب قدماً في طرقات الحياة المزهرة، تلك الدروب الثرية بكل التفاصيل التي تملأ أرواحنا وذكرياتنا بكل ما هو غني بأجمل وأعذب المشاعر واللحظات. على مفرق الطرق ولدت حُب في الزحام علها تكون مفتاحاً لمن يقرأها لدرب جديد أكثر إشراقاً، الحب، كلنا يسأل عن الحب، والكثير منا يعيش لأجله!. في الحقيقة تمثّل قصص الحب وقوداً للكثير من الأعمال الروائية الجديدة سواء تعلّق الأمر بالبيئة المحلية أو العربية أو العالم، وربما يعود ذلك في أحد أسبابه إلى محاولة الروائي الروائية، استقطاب القراء واستمالتهم من خلال تلك القصص لإثراء المخيلة وشحن العاطفة، وهذا ما يبرز بشكل لافت في ثنائية الروائي عبدالله النعيمي اسبريسو، والبانسيون، حيث تعزفان على الوتر نفسه، على رغم أن أحداث الروايتين تقع خارج فضاء الكاتب الثقافي وبيئته المحلية، وهذا ما يؤكده النعيمي نفسه في تصدير روايته البانسيون بقوله إنها: رواية قصيرة لا ترتبط بمجتمع معين، تسرد أحداث رحلة استنارة، خطواتها الأولى بدأت في القلب، وانتقلت شيئاً فشيئاً إلى العقل. وتشترك الروايتان في الفكرة نفسها، وإن اختلفت الأمكنة والأزمنة ونمط السرد، لدرجة يمكن القول معها إنهما متصلتان، أو أن الثانية جزء ثانٍ للأولى وتكملة لها، وتناقش الروايتان علاقة الرجل بالمرأة، وهذا ما يستشف من التغريدة الأولى التي استهل بها النعيمي روايته اسبريسو حيث يقول: الأنثى التي تفتح لك قلبها، تتوقع منك أمرين لا ثالث لهما، أن تستقر فيه برغبة وحب، أو أن تعيد إغلاق أبوابه بهدوء ولطف فلا تخذلها بأي تصرّف آخر!، ثم تصديره لروايته الثانية (البانسيون) حيث يقول: في الحياة دروس يجب أن تؤخذ وفق ترتيب معين، فدرس الصدق يجب أن يأتي قبل درس الحب، ودرس الحرية يجب أن يأتي بعد درس الاحترام. كما تنتقد الروايتان بعض الأفكار المترسّبة في المجتمعات العربية، وبخاصة نظرتها للمرأة عندما تعمل في مهن معينة، نادلة مثلاً. وتأسيساً على ما تقدّم يمكن القول إن المشهد الروائي في الإمارات ولاّد ومتنوع، وقابل للتطوّر والتجديد والتجريب على رغم حداثة التجربة الروائية في عمومها، كما يتسم المشهد بتعدد الأصوات والاتجاهات في الكتابة السردية، ما يضفي عليها طابعاً من التنوع والتجديد باضطراد مستمر، وينبئ بأفق واعد ومزدهر للرواية الإماراتية.
مشاركة :