أحمد شيخو يكتب: اللامركزية قيمة ديمقراطية مشرقية

  • 1/11/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

قي ظل فشل الدول القومية وأحزاب وقوى سلطاتها المختلفة من أقصى اليسار إلى اليمين ومن القوموين إلى الإسلاميين السياسيين وما بينهما،  وفي ظل الأزمات والفوضى والإستبداد والإبادات والتغيير الديموغرافي والتطهير العرقي الذي تسببت به هذه النظم المفروضة على شعوبنا ودول المنطقة، بجدر بنا التسائل على سبب فرض هذه القيم السلطوية المطلقة الغريبة عن مجتمعاتنا وشعوبنا والمولدة للعقد وتعمق المشاكل والقضاي بدل حلها،  ومدى عدائها لثقافة المنطقة وقيمها الحضارية  والإنسانية وتراكمها التاريخي المعرفي.لعل الكم الهائل من الأزمات والقضايا التي تواجدت مع بداية القرن العشرين وبشكل خاص مع النصف الثاني من القرن العشرين في المنطقة نتيجة ذهاب القوى المركزية في النظام الهيمنة العالمي(الحداثة الراسمالية) إلى فرض نظام الدول القومية بدل الأستعمار المباشر كمرحلة جديدة من الهيمنة عبر الاستعمار غير المباشر عبر أجهزة الدولة والسلطة المختلفة.في ظل التحديات السياسية و الإدارية و الاقتصادية والأمنية وخصوصًا قضية مواجهة الإرهاب بمختلف تنظيماتها وكذلك لأهمية تحقيق الإنتماء الوطني للبلد لمختلف المكونات المجتمعية وتهيئة المجال أمام إسهام مختلف الشرائح والتكوينات في رفد البلدان وإدارتها بالطاقات والإمكانات لكل أبناء البلد، بالإضافة إلى تجاوز البيروقراطية المترهلة والمتضخمة، أدرك الكثير من المتابعين والشعوب وبعض الدول أن حل الكثير من القضايا والأزمات ممكن بالذهاب وكما فعلته الكثير من البلدان بتجاوز مفهوم الدولة المركزية الشديدة إلى أنظمة لامركزية ديمقراطية متناسبة مع ثقافتها وتكويناتها الأثنية واللغوية والدينية والجغرافية حققت عبرها الكثير من المكاسب الديمقراطية و الاقتصادية والأمنية  لشعوبها وتمتين جبهتها الداخلية وتماسك مجتمعاتها أمام الإرهاب وتغلغله والتدخلات الخارجية والحفاظ على التنوع والتعدد المتأصل في بنية مجتمعاتها وبلدانها وكذلك الحفاظ على مختلف الهويات الأصلية المحلية في ظل هوية متكاملة جامعة وليس رفض أو إبادة أو طمس الهويات الأصلية المجتمعية.لكن لو تقربنا أكثر من إدراك اللامركزية  كقيمة وكمفهوم وإجراء تنفيذي للوصول إلى الديمقراطية المباشرة المجتمعية أو حتى الديمقراطية التمثيلية الليبرالية لوجدنا أنها قيمة إنسانية وأخلاقية مشرقية قبل أن تكون مصطلح في العلوم السياسية والإجتماعية الغربية ولم يُولد مفهوم اللامركزية ومعه التسامح في المنطقة  من معطيات اجتماعية أو براغماتية وحسب، بل أولًا وأساسًا من  الضمير الأنساني والقيم الأخلاقية في المنطقة وطبيعتها كونها تجسد في  بعض أبعادها التسامح والتعدد لطبيعة الحياة وتدفه التاريخي الموجود.  في منطقتنا(الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) وحتى مع كل أغلب السلطات والدول من الأمبرطوريات والسلطنات والمملكات والأسر من أيام الثورة النيولوتية في الهلال الخصيب وكردستان بالمركز منها قبل 12000ق.م وصولًا لأيام السومريين، الهوريين، البابليين، الأشوريين، الميدين، البارسيين، الميتانين والحثيين والفراعنة  والفينقيين أو الكنعانيين وصولًا للحضارة الإسلامية وغيرها. ورغم كل الحروب والصراعات الدموية ظلت  اللامركزية الطريقة الفعلية المطبقة  والقادرة على استمرار ضمان الحياة لكل أنواع الخصوصيات والمجتمعات والشعوب وكانت المناطق والجغرافيات والشعوب المختلفة تدير شؤونها الخاصة وحسب ثقافتها وتقاليدها بما هو أقرب إلى الكونفدراليات أو الفدراليات الديمقراطية وأحيانًا كثيرة بشكل إدرات ذاتية، وفي نفس الوقت كانت الطريقة المثلى لتقليل الأزمات وحتى الصدامات الجانبية الاستنزافية بنظر أغلب متزعمي السلطات والدول والجيوش حينها حيث كانت مجمل المناطق تدار فيها الحكم المحلي ضمن الدولة الكبرى من قبل أبناء ابناء كل مجتمع وجغرافية.وكانت بلاد ميزوبوتاميا العليا والسفلى أي كردستان والمشرق العربي وصولًا لمصر من الأمثلة الحية على  اللامركزية أو التعددية الدينية حتى عندما تم توحيد الألهة  كان فعله إبراهيم و أخناتون كانوا مضطرين لأن يأخذوا بعين الاعتبار الثقافات والديانات الأخرى السائدة. فالاختلاف صفة كونية عامة بحكم التنوّع العالمي والإقليمي والوطني والذي هو سمة عامة تعيشها وتتعايش معها كل المجتمعات والدول. إذ كل مجتمع وكل أمة وكل دولة لها قيمها وعادتها وتقاليدها وثقافتها وأهدافها الخاصة بها، ما يجعل اللامركزية ليس مجرد حق لصاحبه بل واجب عليه أيضا لضمان التعايش السلمي والعيش المشترك والتفاعل الايجابي بين الناس، بما يتناسب ومبدأ النسبية وعدم وجود الأحادي والمطلق في كل ما هو أنساني واجتماعي وسياسي.ارتبطت  اللامركزية ومعانيها في الكثير من الأوقات بقيمة المساواة والعدالة والتسامح بشطريها السماوي والاجتماعي، التي عنت من ضمن ما عنت، الاعتراف بالآخر وقبول تنوعه واختلافه (سياسيًا، دينيًا،، فكريًا، ثقافيًا، حضاريًا). فمن أخناتون وحمورابي وزينون وكاوا الحداد إلى زرادشت و موسى والمسيح ومحمد، كانت المساواة بين البشر في السماء تتمدد إلى الأرض والواقع، وتعطي التسامح سمة القانون الرباني والمبدأ الأخلاقي الإلزامي. هذا أيضًا ما جعل  اللامركزية ببعدها المسامح سمة شبه دائمة محرّكة لمعظم تاريخ المشرق والمنطقة.والأديان التوحيدية في بداية انطلاقاتها كانت تسعى إلى إرساء مفهوم اللامركزية بخصوصية العدل والمساواة  والتسامح وتعميمه عالميا.  ورغم  حقبات القمع والاستبداد والمحاولات المتكررة من الكثير من السلطويين الذين حاولوا استغلال الدين والمقدسات من إزالة اللامركزية واحترام حرية الخصوصيات وعيشها وإدارة أرضها ومجتمعاتها لكنها بقيت وإن بأشكال مختلفة وأحيانًا بشكل غير ظاهر أو بصيغة مذاهب وطرق .ولعل من الامثلة التاريخية للديمقراطية و لللامركزية الحقة في الحضارة الإسلامية، هو دستور المدينة التاريخي الذي كتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي حوى 52 بندًا منها 25 بند حول أمور المسلمين و27  مرتبطة بالعلاقات بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود  وحتى عبدة الأوثان. وقد دون هذا الدستور  بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، وأن يقيموا شعائرهم ويعيشوا خصوصياتهم ويديروا أمورهم،  ومنها المالية ومناطقهم حسب رغبتهم ومن غير أن يتضايق أحد، وفي حالة الهجوم الخارجي على المدينة يتوحدون للدفاع عن المدينة وطرد الغزاة ويتساعدون في الإنفاق على الدفاع الجمعي. في ظل لامركزية اقتصادية وأمنية وحتى دبلوماسية وعقد الأحلاف التي لاتضر بالدولة والمدينة المنورة وحرية دينية وغيرها،  وكلها واردة في بنود دستور ضمن نظام متكامل مرغوب ومقبول ومتفق من قبل الجميع.لكن أكبر ضربة للامركزية، لهذه القيمة المشرقية العليا والإسلامية والإنسانية  كانت بعد حرب الثلاثين السنة في أوربا وإقتراح أو الذهاب بإتجاه أن تكون لكل قومية أو اثنية دولة خاصة وكأن الحرية والديمقراطية والكرامة والرفاهية والحرية الدينية غير ممكنة من دون الدول القوموية وكأن المناطق مفصلة حسب الأمم والأثنيات ولا يوجد أختلاط وتداخل بين الشعوب والأمم، وبعد الحرب العالمية الاولى وصعود نجم الدولة القومية  بشكل مفتعل ومخادع للمنطقة ولشعوبها وأساسًا هي كأحد أدواة فعالة في تثبيت الهيمنة العالمية ونهب مقدرات الشعوب والتحكم بها، ظهرت سلطات الدولة القوموية المختلفة التي أقتنعت زورًا وبهتانًا أن الدولة القومية مطلقة وهي الوحيدة المرجوة في كل التحركات وحتى  أغلب حركات التحرر الوطنية، ولذلك تم الهجوم على  اللامركزية أهم قيمة مشرقية إنسانية ومحاولة فرض المركزية الشديدة وخلق المواطنة النمطية كما حدث في تركيا بعد عام 1023 وفي إيران وأغلب دول المنطقة  وحتى في الاتحاد السوفيتي والصين وباقي الدول وقبلها في أوربا . لكن من أصر على جرمه ومطلقيته القومية أو السلطوية  المركزية الشديدة وعاند ولم يجري التراجع والتصحيح  والعودة إلى الديمقراطية واللامركزية في الوقت اللازم كما في دول المعسكر الشرقي والعديد من الدول أصبحوا في خبر كان أو أنهم يعيشون مع جبال من الأزمات والقضايا وفي حالة ضعف أمام الإرهاب والإنهيارات الإقتصادية والأزمات الإجتماعية وفي حالة حرب دائمة مع شعوبها كما تركيا، في حين أن من أدرك أهمية اللامركزية في مختلف مجالات الحياة للأم والشعوب والمجتمعات  استطاع تجاوز الكثير من القضايا المعقدة والصعبة وبذلك جعلوا كل أبناء بلدانهم فعالين في عمليات البناء وبهوياتهم المختلفة والتي جرى ضمان حريتهم وعيشهم بدساتير اساسية ديمقراطية تحقق الأمن والاستقرار والسلام.

مشاركة :