تجربة الحداثة السعودية.. نقاد وشعراء ونصوص غائبة

  • 8/29/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في المشهد الثقافي السعودي وعندما تأتي سيرة الحداثة يتذكر الناس أسماء كثير من النقاد وبعض الشعراء لكن النصوص تغيب والحديث عنها يتوارى، وكأن الحداثة - كمنجز أدبي - لم يكن لها ذلك التأثير الفني على المشهد الثقافي، بل مجرد حالة الصراع اكتسب منه بعضهم الشهرة والنجومية. فهل كانت تجربة الحداثة مجرد كذبة أدبية تضخمت بفعل تحرش التيار المحافظ بنصوص تلك المرحلة، حيث لولا تلك المماحكات والتحرشات لكان كثير من منجز مرحلة الثمانينات مجرد نصوص عابرة ليس لها من مجد أدبي سوى أنها كانت نتاج صراع مرحلة زمنية ما. ولهذا تم طرح السؤال على ضيوف هذا المحور: عن عمق تجربة الحداثة من الناحية الأدبية ولماذا غابت مساءلة هذه التجربة من الناحية الفنية؟ محمد العباس - ناقد حركة الحداثة في السعودية لم تكن كذبة بقدر ما كانت معظم الأسماء التي لبست لبوسها هي الكذبة؛ لأن سؤال الحداثة منغرس بعمق في المشهد قبل مرحلة الصدام التي شهدتها الثمانينيات وما بعدها من القرن الماضي، وسيظل منزرعاً بكل إشكالاته وتشظياته في كل زوايا المشهد اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً؛ لأن الحداثة جزء من صيرورة المجتمعات وحركة الأمم بتكرارات تحدث إلى الأمام. أما ذلك الفاصل من الصراع الذي انشغل بالشق الأدبي فقط فلم يُقرأ كما ينبغي، ولم يخضع للدراسة المأمولة، وهو ما سمح لبعض الأسماء باقتطاف ثمرة ذلك الحراك وتسجيلها في رصيده الشخصي. فهناك أسماء اكتسبت سمة الحداثة وهي لا تمتلك ذلك الجهاز المفاهيمي الحداثي. إذ لم تسهم في المجابهة إلا بتعليقات صحفية على هامش المعركة. وظلت تطرح نفسها في مقدمة طابور الحداثة من دون أن تستجلب إلى المشهد أي مفهوم حداثي. ومن دون أن تستدخل في الساحة الأدبية أي نص من نصوص الحداثة. وبالمقابل هناك أسماء اختصرت الحداثة في وجودها الشخصي، مع فائض من الحماس لتسعير المعركة، لكنها سرعان ما ارتدت إلى حواضنها التقليدية بمجرد أن استشعرت الخطر الاجتماعي والديني، فصارت تباهي بتتلمُذها في حلقات رجال الدين واستئناسها بخطاب الدعاة، مع ادعاء بأن هذا التتلمُّذ التأسيسي للوعي لا يتعارض مع مستوجبات الحداثة، وكل ذلك كان يجري ضمن مجابهة تنهض على جدلية الثنائيات الحادة، أي استدعاء الديني قبالة اللاديني، مروراً بقدسية اللغة، من دون أي قدرة ولا رغبة من الطرفين في مساءلة النصوص من الوجهة الأدبية. وكانت معظم النصوص الأدبية الموصومة بالحداثية تجتر ما يتم إنتاجه عربياً، لتستخدم في المواجهة الداخلية كأدوات قتالية واستفزازية للطرف الآخر الذي لا يمتلك أي منهجية ولا رغبة في مقاربة النصوص بحساسية أدبية فيها من المجاز والاستعارات والتوريات ما يخرجها من دائرة المسّ بالقيم الدينية والاجتماعية. كما كانت بعض الدوائر الثقافية العربية تعمل رافعة لذلك الجيل الشاخص نحو الحداثة الأدبية. وهو الأمر الذي بات مكشوفاً بعد انحسار موجة الحداثة بشكلها المدّبر ذاك. ووقوف معظم النصوص في عراء قرائي. كما أن النقاد الذين تحمسوا لتلك النصوص الطارئة أعلنوا براءتهم من معظمها وتخلوا عن الفصيل الأدبي المحسوب على الحداثة الأدبية. وكأن ذلك التحالف قد انتهت مفاعيله بخفوت ضجيج المعركة، وأي قراءة واعية ومتأنية لمنجز النقاد تحديداً ستكشف عن خواء في مقاربة التجربة، كما ستفصح عن كتابات شعاراتية إنشائية تفتقر إلى المفاهيم التي يفترض أن تتشيد بموجبها الحداثة، وكأن كل ما حدث لم يكن سوى مجابهات شخصية استئثارية، إذ لا تحتفظ الذاكرة الأدبية بمساجلات ذات قيمة في هذا الصدد بقدر ما تختزن ملاسنات لا تمت إلى الأدب بصلة، ولذلك نلاحظ انبعاث بعض النصوص التي كانت بالفعل تمتلك حسّها الحداثي وتخضع بشكل استعادي للقراءة والدراسة كنصوص محمد الثبيتي مثلاً، وهو ما يعني أن الحداثة ذاتها لم تكن كذبة، بل أسست بالفعل لأرضية يمكن البناء عليها، إذ يمكن هنا تأكيد جيل النظرية النقدية الذي زحزح بنى النقد التقليدي عن مواقعه، ونقل معركة الحداثة من النص، حيث تمثلت آنذاك في النص الشعري، إلى فضاءات النقد بكل ما يحمله الخطاب النقدي من قدرات وإمكانات للتجابه ونبش الموروث وخدش قدسية اللغة. إلا أنه - أي النقد - لم يمارس مهامه التطبيقية على النصوص. ولذلك خسرنا الرهان على هذا البعد المهم في التأسيس والتأريخ لجماليات الحداثة في نصوص ما زالت محل اختلاف وارتياب. خالد الرفاعي - ناقد من الصعب القول إننا كنا أمام (كذبة أدبية)، أو أمام صدى أكثر منه صوتاً وحقيقة، ومن الصعب أيضاً القطع بأن مردّ كلَ ما أنتجته الحداثة السعودية إلى المواجهة المفتوحة التي تعرّضتْ لها! لقد أنتجت تلك المرحلة تجربة شعرية ونقدية مختلفة، متسقة في بعض وجوهها مع عوالم الصوت الحداثي العربي، واستطاع عدد من الشعراء والنقاد السعوديين أن يصلوا بهذا المنجز المختلف إلى القارئ العربي، وأن يستدرجوا جزءا من اهتمامه أيضاً، وهذه حقيقة، نجدها اليوم حتى على ألسنة عدد من النقاد من مثل: يوسف بكار، سعيد يقطين، حميد لحمداني، جابر عصفور، عبدالله إبراهيم، يمنى العيد، نبيلة إبراهيم، وكل هؤلاء نقاد متميزون، اهتمّوا ببعض التجارب الحداثية في المملكة انطلاقاً من اهتمامهم العام بالنصّ الحداثي في الأدب العربي. لكن (وما بعد لكن هو المهمّ) لم يكن منجز الحداثة في بلادنا بحجم صوتها، أو الصوت المضاد، لأمور: أولها: أنّ الذين أثروا الفكر الحداثي في الإبداع الأدبي والنقد (يمكن عدّهم على أصابع اليد واحدة)، عدد محدود من الشعراء والنقاد، لكنهم استطاعوا لأسباب متعدّدة أن يحدثوا كلّ هذا الصوت، الذي يعدّ مفصلاً من أهم مفاصل النشاط الفكري والثقافي في بلادنا. وثانيها: أنّ هذه القلة فتحت الباب لكل مسكون بالثورة على السائد والنمطي من جهة، وكلّ متطلع بشغف إلى الشهرة الآنية (كما يعبر د. عبدالله الفيفي) من جهة أخرى، ليدخلوا الحداثة من أبوابها الواسعة. ومن المؤسف أنّ أقطاب الحداثة هم من كان يفتح الأبواب لهؤلاء، وهم من كان يتلقاهم بالأهازيج وأكواب العصير، ربما رغبة منهم في تكثير سوادهم، أو نكاية بخصومهم، عبر إشعارهم بأنّ لنشاطهم جمهوراً واسعاً.. وما من أحد ينكر شيوع لغة التكثّر بالأتباع في كل مفصل من مفاصل تحولاتنا الفكرية والثقافية، وفي أعقاب كل واقعة ثقافية كبيرة. كان هذا سبباً في أن تتسلّل إلى ديوان الحداثة السعودية نصوصٌ لا تمتلك الحدّ الأدنى من الأدبية ولا من الوعي النقدي! لا، بل إن بعضها لا يمتلك حتى الحدّ الأدنى من الموهبة، وأجزم أنّ اتساع هذه المساحة من الحداثة الزائفة قد أثر تأثيراً كبيراً في مسيرة الحداثة، وربما أدى إلى عزوف النقاد عنها فضلاً عن غيرهم، كما يحصل اليوم مع الرواية! وثالثها: أنّ كثيراً من الفاعلين الذين أسهموا في بناء مرحلة الحداثة السعودية ذهبوا ضحية (الأنا) المَرَضِيّة، التي تسيطر على كثير من المثقفين السعوديين، وتتمثّل في حرصهم على المكسب الشخصي أكثر من حرصهم على المنجز الثقافي والأدبي والنقدي، لقد حصل انفصال روحي بين أقطاب الحداثة في السعودية مهّد لانفصال مادي مذهل، وباكتمال هذا الانفصال ظهرت تلك النزعة على السطح، وكان كتاب "حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية" أفضل من عرّاها، فقد اختار الغذامي لكتابه شكل الحكاية، والحكاية تتطلب راوياً، وتمنحه حقّ التصرف في حكايته، فهو من يبني أحداثها، وهو من يخلق شخصياتها، وهو من يخلع عليها الأبعاد المادية والروحية، وهو من يختار إطارها الزمني، وبإيجاز: هو من يحدد ما ومن يبقى فيها على قيد الحياة، وما ومن يجب أن يموت! هذا ما شعر به بعض أقطاب الحداثة فاعترضوا على شكل الكتاب، وعلى ملامح النرجسية التي أدت بمؤلفه إلى ممارسة الإقصاء في التأريخ لأكثر المفاصل الفكرية والثقافية أهمية، فلم يكن من الغذامي إلا أن أجابهم بقوله: "كتبتُ حكايتي فاكتبوا حكايتكم"! هكذا انتقلت الحداثة من دائرة المنجز الفكري والثقافي العام، إلى دائرة الملكية الخاصة، التي يبنيها كل قطب بالطريقة التي يراها، ولن أقول بالطريقة التي يتراءى للناس من خلالها! وأصبح السؤال عن تاريخها - في المقابل - سؤالاً مغلّفاً عن الأنا: أين اسمي؟ لماذا تجاهلتني؟ لمَ لمْ تكتب كلّ شيء؟! أذكر الآن أنّ أحد شعراء الحداثة، سئل في لقاء تلفزيوني عن أهم النقاد السعوديين الذين أسهموا في قراءة النص الحداثي، فأخذ يجمع لإجابته الأسماء النقدية من كل صوب وحدب (بعضهم من معارضي الحداثة)، وختمها قبل أن ينطق باسم الغذامي، بل ذهب إلى أنّ بعض النقاد الحداثيين خدمتهم الأضواء، ونفعتهم نصوصنا أكثر مما انتفعت بهم أو منهم!! حكايتي/ نصوصنا/ نفعته أكثر مما نفعها. لغة تشفّ عن الصورة البائسة للمثقف السعودي، الذي يقدم للمشهد كلّ شيء، ثم إذا غضب جمع ما قدمه ورحل، وقال بصوته النديّ: "الراحلون هُمُ"! لقد انقسمت الحداثة حداثات، وأصبح لها من التاريخ بعدد ما كان لها من الشعراء والنقاد، وأصبحت كل فئة تسعى إلى إخراج الفئة الأخرى من دائرتها بإحالات عقدية أو فنية (في أحسن الأحوال)! لا أدري بعد هذا هل يحق لي القول: إنّ الحداثيّ نفسه لم يكن مهيّأ (ثقافياً) للتعاطي مع مرحلة الحداثة؛ فكأنما صَدَقَ عليه قولُ نزار: وإنّ من فتح الأبوابَ يغلقها وإنّ من أشعل النيرانَ يطفيها مسفر الغامدي - شاعر أتذكر مع صدور كتاب عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام)، أن أحد الأصدقاء (المبدعين يومها) قد غضب، وأصابه بعض الغم، حين سألته عن سر ذلك، قال لي إن السبب يعود إلى أنه لم يكتب نصاً (إشكالياً)، لينضم إلى قافلة الكتاب (الهدامين) الذين تواجدوا في كتاب القرني، ليصبحوا من المشاهير. بالفعل كان تحرش التيار المحافظ سبباً مهماً لرواج كثير من الأسماء، التي كانت ستكون مهملة لولا ذلك الانتشال (الديني) غير المقصود، الأمر الأسوأ من تلك المماحكات هو أن معظم ما كتب في تلك الفترة، سواء على الصعيد الشعري أو السردي أو حتى النقدي، لم يكن سوى (مماحكات) لغوية.. تحول الإبداع والنقد إلى هذيان لغوي، كان الجميع يتحدث عن تفجير اللغة، وعن موت المؤلف، وعن بنية النص، فيما كان الإنسان شبه غائب.. اللغة هي من كانت تتحدث، وليس أصحاب اللغة. اللغة كذلك تتحدث عن كائنات لغوية، لا عن كائنات بشرية، لم تكن الحداثة في الأغلب مشروعا تنويريا شاملا، كما ظنها المحافظون، بل كانت نوعا من السير على حبل مشدود في حلبة سيرك: ليس المهم أن تقطع مسافة، بل المهم ألا تقع من على الحبل، كانت غالبا مفصلة لكي تقول كثيراً، من دون أن تقول شيئا. مع ذلك يمكن أن نحسب لتلك الفترة، أنها نبهت الحداثة ليس إلى ما قالته، بل إلى ما كان يجب أن تقوله.. الهروب إلى اللغة قد يكون حلاً مجدياً مع الرقيب، أو المشرف على رسالة جامعية، ولكن ليس على الدوام.. ما حيلتنا إذا كانت اللغة مراوغة، وقد تقوّلنا أحيانا ما لم نقله، أو ما لم نقصد أن نقوله، حينها ستجد كائنا متربصا خائفا متشككا يبحث ما بين السطور، فوقها وتحتها وأمامها وخلفها، ليجد دليلا واحدا يؤكد ظنونه، وهذا ما حدث، لم تقل الحداثة يومها شيئا مفيدا على الأغلب، ولكنها وجدت من يتمم نقصها... من يمسك بيدها، ويرشدها إلى الطريق الصحيح، حتى لو كان من ألد أعدائها.

مشاركة :