يمتد الحديث حول قدرة الاقتصاد على تجاوز الأزمة العالمية الراهنة، ومستوى تحمله للآثار المحتملة نتيجة انكماش نمو الاقتصاد العالمي خلال العام إلى ثلاثة الأعوام القادمة، وأثره على وجه التحديد في اتجاهات أسعار النفط، إذ قدر صندوق النقد الدولي وفقا لآخر بياناته أسعار الخام عند 50.4 دولار خلال 2016، وعدم عودتها لأعلى من 60 دولارا إلا بعد منتصف 2019، وهو ما يندرج ضمن نقاش السيناريو الثاني بين ثلاثة مسارات محتملة مستقبلا، حسبما أوضحته في المقال الأخير. ستتطلب محافظة المالية الحكومية على نفس مستوى الإنفاق خلال الأعوام الأخيرة، الذي تخطى سقف تريليون ريال، تعويض الانخفاض في مستوى الإيرادات النفطية عبر ثلاثة خيارات متاحة، يمكن أن تلجأ إليها مجتمعة وفق نسب متفاوتة، أو لبعضها حسبما تقتضيه الضرورة، وبناء على ما ترتئيه وزارة المالية. الخيار (1) السحب من الاحتياطي العام، الخيار (2) الاقتراض المحلي عبر إصدار السندات الحكومية (3) تعزيز وزيادة جانب الإيرادات الأخرى غير النفطية، إلا أنه رغم كل تلك الخيارات، فلا شك أن خفضا معينا للإنفاق الحكومي لا بد أن يتم إجراؤه قد تراوح نسبته بالمقارنة بالإنفاق المقدر للعام الجاري (1.2 تريليون ريال) بين 30 إلى 45 في المائة، ليستقر مستوى الإنفاق الحكومي عند مستويات 650 إلى 850 مليار ريال، وفي تلك الحالة قد لا يتجاوز العجز المالي السنوي سقف الـ 200 مليار ريال، وهو المستوى من العجز الذي لن يشكل تمويله تحديا جسيما يذكر، وذلك عبر أي من الخيارات الثلاثة المذكورة أعلاه! وفق هذا المسار؛ يمكن القول إن خيار تمويل العجز عبر رفع الإيرادات الأخرى غير النفطية، بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء كما تم إيضاحه بإسهاب كبير في المقال الأخير، ستتمكن متحصلاته في العامين الأولين من تمويل العجز كاملا، دون الحاجة إلى توسع المالية الحكومية في الخيارين الآخرين "السحب من الاحتياطي، إصدار سندات التنمية"، وحتى إذا تم اللجوء إلى أي منهما، فلن يُشكل ذلك ضغطا كبيرا عليهما، مع الإشارة المهمة إلى الفوائد الأخرى العديدة لخيار فرض الرسوم على الأراضي كما أشير إليها سابقا، لعل من أبرزها انخفاض الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات، ودوره الكبير في الحد من التضخم، وانعكاسه إيجابا على خفض تكلفة التشغيل والإنتاج. إضافة إلى انخفاض تكلفة المعيشة على المواطنين بصورة كبيرة، وإسهام تلك الرسوم كأداة فاعلة في إعادة توزيع الأموال الخارجة من ملكيات الأراضي على بقية نشاطات الاقتصاد الوطني، وضخها في قنوات الاستثمار المحلية وتأسيس المشروعات الجديدة أو توسيع بعضها الآخر، ما سيسهم في زيادة تنوع قاعدة الإنتاج المحلية، وفي زيادة فرص العمل الكريمة للمواطنين والمواطنات. إذا؛ تمتلك المالية الحكومية طوال الأعوام الثلاثة القادمة عديدا من الخيارات المتاحة بكل يسر، ودون التسبب في زيادة الضغوط على الاقتصاد الوطني، وتحديدا دون الضغط على كل من القطاع الخاص أو أفراد المجتمع، بل إنها ستسهم في إحداث تغييرات هيكلية للاقتصاد، سيتحقق معها عديد من الفوائد طويلة الأجل، لعل من أهمها تحفيز رؤوس الأموال على الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتوظيف، عوضا عن تكدس الأموال والثروات في قنوات المضاربة على الأراضي أو نحوها، التي ستأتي نتائجه في المحصلة النهائية لصالح الاقتصاد والمجتمع، عبر زيادة تنويع قاعدة الإنتاج بالنسبة للمتغير الأول (الاقتصاد)، ومن خلال تحسين مستوى معيشة ودخل "أفراد المجتمع" المتغير الثاني. أخيرا؛ حينما يتم توظيف الإمكانات والموارد المتاحة لدينا، وفق الخيارات الأنسب للاقتصاد والمجتمع، حتى إن كان الاقتصاد العالمي يسير في طريق وعر بعض الشيء، فإن النتائج الإيجابية هي التي ستنتظر الاقتصاد والتنمية نهاية الفترة الراهنة، هذا على افتراض مضت الأمور كما أُشير إلى ملامحها الرئيسة أعلاه. لكن إذا لم تمضِ على ذلك الطريق المأمول؛ ما النتائج المحتملة وفقا لهذا التصور؟! كأن يتم تأخير فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، ويتم التوسع في الخيارين الآخرين "السحب من الاحتياطي، زيادة إصدار سندات التنمية"، لعل من أهم النتائج المحتملة لهذا المسار، أن يتم تفويت كثير من الفرص المواتية في الوقت الراهن، وفي الوقت ذاته أن تتفاقم التحديات على كاهل الاقتصاد عموما، والمالية الحكومية والقطاع الخاص على وجه التحديد، وكل ذلك سيكون له انعكاساته السلبية دون شك على مستوى كل من دخل الأفراد والتنمية الشاملة. إن تفويت الفرص المثالية في الوقت الراهن، يعني أيضا تفويت المكاسب المأمولة منها مستقبلا، ويعني كذلك زيادة وزن التحديات الراهنة في عديد من جوانب التنمية لدينا، ومع تضاؤل الفرص وخيارات الحلول وفق هذا المسار، لا شك أن جزءا من تلك التحديات قد يتحول إلى أزمات مستعصية الحل، بل قد تتسبب بكل تأكيد في إيجاد تحديات وأزمات تنموية جديدة، في عديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، نحن جميعا في غنى تام عنها، لم تكن لتوجد لدينا لولا التورط في المقدمات التي أفضت إليها. إن من الضرورة القصوى بمكان، التأكيد المهم على أن يتم التعامل مع التطورات الراهنة والمحتملة مستقبلا، وفق رؤية استراتيجية شاملة، سبق الإشارة إلى (شرط) تحديدها والعمل بها في مقدمة سلسلة هذه المقالات حول الأزمة الراهنة التي يمر بها الاقتصاد العالمي، وأنها كذلك بعينها هي المطلب الاستراتيجي الواجب رسمه وتحديد أطره، الذي طالما ألح عليه الكاتب وعديد من المختصين طوال الأعوام الأخيرة. إنها قياسا على ما تمتلكه بلادنا وأهلها، بحمد الله، من إمكانات وموارد قياسية في الوقت الراهن، تكاد تكون هي الحلقة الأهم المفقودة، وأنه بتوافرها وهي البند الأدنى تكلفة، مقارنة بغيرها من البنود الأخرى، سيصبح في قدرة الاقتصاد السعودي تجاوز أي تحديات أو أزمات محتملة- بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق. نقلا عن الإقتصادية
مشاركة :