لعل أهم ما ميز العام المنصرم 2020، حديث السلام وتجاوز الخصام، عبر الاتفاقيات الإبراهيمية، تلك التي جرت بها المقادير بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وقد فتحت دولة الإمارات العربية المتحدة الباب واسعا أمام بداية جديدة تحاول من خلالها القفز على حديث الكراهية والعداوة القديم، وبناء أجيال محبة للسلام والعيش الآمن، مع الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، وتحفيز الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على الجلوس معا، وبلورة رؤية تصالحية تنهي صراعات ثمانية عقود أو أزيد. مع بداية العام الجاري كانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية تنشر مقال رأي لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق “غادي آيزنكوت”، لا يدفع في طريق السلام المحبوب والمرغوب، ولا يخرج عن الخطاب الكولونيالي الإسرائيلي المعتاد تاريخيا. ينصح آيزنكوت قادة إسرائيل بأن يتحدوا للتغلب على الأزمات الصحية والاقتصادية، وهذا أمر لا يمكن لأحد أن يختلف معه عليه. غير أن بقية التصريحات تشعر من يطالعها، لا سيما إذا كان من أنصار السلام الحقيقي، بالقلق على مستقبل المسيرة الإبراهيمية، فالرجل يؤكد على ضرورة تمسك قادة إسرائيل بما يسميه ضمان الوجود اليهودي والديمقراطي لهم وللأجيال الإسرائيلية في المستقبل، مع حتمية العمل على منع تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية. يرى آيزنكوت إذن أن إسرائيل ينبغي أن تضحى يهودية بالمطلق، وينصح بالانفصال الكامل عن الفلسطينيين مع الاحتفاظ بالمستوطنات. رؤية الرجل لدولة إسرائيل تتمحور حول دولة يهودية ديمقراطية مبتكرة قائمة على القوة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، ما يعني أن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة قائمة بذاتها بجوارها أمر لا يخطر له على بال، ما يفرغ الحديث عن السلام من أي محتوى جاد أو جدي. في نهاية سطور مقاله يشدد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق على فكرة الانفصال الكامل عن الفلسطينيين، ويرى أن ذلك يفضل أن يكون من خلال اتفاق مرحلي وشامل، يتضمن شروطا صارمة مع الحفاظ على المراكز السكانية في الضفة الغربية ومنطقة غور الأردن المهمة كما يصفها.. ما الذي تعنيه تلك الكلمات؟ باختصار غير مخل، يبدو القائد الإسرائيلي السابق، والمرشح للعب أدوار سياسية متقدمة في قادم الأيام، رافضا لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من جانب، وهذا أمر يتسق والتفكير العام حتى الساعة لغالبية إن لم يكن كل القيادات الإسرائيلية، رغم المواقف الدولية المتعددة، والتي ترى أنه حان الوقت، لأن يكون للفلسطينيين دولتهم، وأن تنتهي هذه التغريبة التي طال بها الزمان. غير أن الإشكال الأكبر في طريقة تفكير الجنرال آيزنكوت، يتمثل في إرهاصات العودة إلى العيش في داخل “الغيتو اليهودي”، مرة جديدة، فالإنفصال العنيف الذي يتحدث عنه يعني العزل بين اليهود من جهة، وبقية الفلسطينيين مسلمين أو مسيحيين من جهة ثانية. يتساءل المرء: هل لم تعي الأجيال اليهودية المعاصرة دروس التاريخ وأحاجي الألم الذي تعرض له آباؤهم وجدودهم، من جراء تمترسهم في “غيتوهات” أوربا في القرون الوسطى، وصولا إلى الكارثة الإنسانية التي ندينها بكل قوة إيمانية وإنسانية، ونقصد بها ما جرى في زمن النازي من محارق وإعتداءات على حقهم في الحياة؟. حين فتحت مصر المحروسة أبواب السلام أمام إسرائيل قبل أربعة عقود، كانت تنظر إلى معينها الحضاري والتاريخي، فقد عاش آل إسرائيل في الأزمنة الغابرة على أرض مصر نحو ستمائة عام، وقدرت المقادير أن يعودوا لها في الأزمنة القروسطية ثانية بعد الإضطهادات التي عاصروها وعصرتهم في القارة الأوربية، وقد ظلوا إلى أوائل ستينات القرن الماضي، يعيشون على قدم المساواة مع مواطنيهم المصريين، بدون تمييز أو تفريق، فوجدت ساعتها لهم حياة كاملة بعيدا عن فلسفة ” الغيتو “، المهلكة للحرث والنسل . والآن حين تفتح الإمارات من جديد دروب التعايش بين يهود العالم وكافة الشعوب في منطقة الشرق الأوسط، تلك التي تسعى لأن تجعل شعارات الحياة أعلى من رايات الموت، والحوار والجوار ثمة للتعايش الواحد، تأتي أصوات من نوعية الجنرال آيزنكوت محاولة إطفاء قناديل السلام، والعودة إلى أمسيات الظلام ،وكأن البعض في الداخل الإسرائيلي يخشى السلام، بأكثر مما يتمناه العالم برمته . لم يراجع الجنرال آيزنكوت غالبا بيانات مركز سياسة الهجرة الإسرائيلي، تلك التي نشرتها صحيفة جيروزاليم بوست في الثالث من يناير كانون الثاني الجاري، والتي اشارت إلى أنخفاض عدد السكان اليهود في إسرائيل بنسبة 0.2% عن عام 2019 والسبب هو زيادة عدد السكان العرب وغيرهم من غير اليهود، كما أن نسبة المهاجرين اليهود الجدد إلى إسرائيل إنخفضت بدورها . ربما على الجنرال آيزنكوت أن يراجع حال ومآل الجاليات اليهودية في أوربا وأمريكا، لا سيما مع تنامي العداء للسامية مرة أخرى، وإستهداف يهود أوربا والولايات المتحدة الأمريكية من جماعات عنصرية وقومية، شوفينية ويمينية متطرفة، تحاول إستدعاء رسم ووسم الماضي البغيض، الأمر الذي دفع بالقيصر الروسي فلاديمير بوتين لأن يدعو يهود أوربا للهجرة مرة جديدة إلى روسيا الإتحادية، على أمل أن يجدوا فيها الأمن والملاذ من القلاقل المستجدة في الغرب التقليدي . ولعله حال مراجعة تلك الأوضاع يخلص إلى أن هناك فرصة ذهبية لأن يعيش يهود إسرائيل في سلام مع العرب وغيرهم في الشرق الأوسط، شرط التخلي عن ذهنية الغيتو، وإنصاف المظلومين، وإحقاق الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، فهذا هو الدرب الوحيد الأنفع والأرفع، من أجل أجيال تعيش على أريحية السلام، وليس أجيال تعيش على حد السيف، كما كان يصرخ ليفي اشكول رئيس وزراء إسرائيل نهار 5 يونيو 1967.
مشاركة :