من المساوئ في أمتنا العربية، وما أكثر المساوئ أن الليلة تشبه البارحة، وأن تاريخنا توقف نموه تماماً عند الحالة القزمية المزمنة، وأننا نلدغ من نفس الجحر ألف مرة، وأننا نعيد إنتاج السلبيات بأبطال جدد، ولا نعيد إنتاج الإيجابيات، ومن الظواهر الدالة على ذلك كله أن كل قضايانا بلا استثناء تحولت ربما بفعل فاعل مجهول من قضايا سياسية إلى قضايا إغاثية وإنسانية، حدث هذا في قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، الذي كنا نقول إنه صراع وجود لا صراع حدود، وأن تحرير فلسطين ينبغي أن يكون من النهر إلى البحر، أو ما شابه ذلك، ومع الزمن صارت قضية فلسطين صراع حدود عام 1967 ثم صراع حدود بين إمارة غزة ودولة رام الله، أي صراع وجود بين «حماس» و«فتح»، فإما «حماس» وإما «فتح»، وبعد ذلك أصبحت قضية فلسطين قضية غوث وتشغيل اللاجئين، وقضية طحين وبطاطين وإعمار غزة، أي أنها ألغيت أو ضاعت تماماً كقضية سياسية لتصبح قضية إغاثية بامتياز. حدث الأمر نفسه والتحول نفسه من السياسة إلى الإغاثة في قضايا لبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن، وليس للمطاف نهاية، وقد نجد أنفسنا أمام قضايا أخرى قريباً تتحول من الثورة والسياسة إلى المعونات والإغاثة، وهو ما أسميه صوملة الوطن العربي أو القضايا العربية، حيث ينسحب السياسيون وتتلاشى تماماً محاولات واجتماعات الحل السياسي لتحل محلها وكالات ومنظمات الأمم المتحدة الإغاثية والصحة العالمية والجمعيات الخيرية وأطباء بلا حدود. وهذا ما حدث في فلسطين والصومال ويحدث الآن في المناطق العربية الملتهبة التي أصبحت دولاً سابقة أو فاشلة.. وعندما يتحول السياسي إلى إغاثي فإن ذلك يعني بالضرورة تحول الدولة إلى فاشلة، وهو ما نراه الآن في كثير من الدول العربية خصوصاً تلك التي ضربها إعصار الخريف العربي. والأمم المتحدة، أو ما نسميه المجتمع الدولي لا يعلن صراحة تحول الدول إلى فاشلة، ولكنه يستخدم تعبيراً أخف، وهو أن هناك مخاوف من تحول دولة ما إلى فاشلة، وهو تعبير يشبه تعبير «الموت الإكلينيكي أو السريري»، أو يشبه تأجيل أو رفض استخراج شهادة وفاة لشخص مات من زمن طويل وشبع موتاً. واللافت في الأمر أن التحول من سياسي إلى إغاثي لا يحدث إلا في المنطقة العربية، ربما لأن هذه لعبة يجيدها تماماً الإرهابيون ومنظماتهم وجماعاتهم، وفي القلب منها «الإخوان»، لأنهم لا يستطيعون العمل وممارسة النشاط إلا في ظل الخراب والدمار والتشرد واللجوء والنزوح، والأدهى أنهم هم أنفسهم الذين يصنعون الخراب والدمار والرعب وتشريد الآلاف ثم يبدؤون التباكي وإرسال قوافل الإغاثة التي تشبه إلى حد كبير بعثات التبشير، لكن بعثات التبشير لا تصنع خراباً ولا دماراً. ويركز إعلام «الإخوان» ومن والاهم دائماً، كما يركز «الحوثيون»، وهم نفس «الإخوان»، ولكن في الطائفة الأخرى على الكوارث الإنسانية والمناطق المنكوبة والأطفال القتلى والنساء الثكالى، والأرامل وعمليات اللجوء والنزوح كورقة ضغط على المجتمع الدولي، ليتبنى فكرة حث جميع الأطراف على وقف النار رغم أن الجماعات الإرهابية، هي التي تقتل وتدمر وتركز على ضرب المدنيين للعب بهم، وكسب التعاطف الدولي والشعبي على طريقة المثل العامي المصري (يقتل القتيل ويمشي في جنازته). ... المزيد
مشاركة :