بمعزل عن عزلة إيران الدولية وموقعها المترنح في النظامين العالمي والإقليمي، يئن الشعب الإيراني من وضع داخلي مزرٍ هو الأسوأ في تاريخه. يقرّ النظام الإيراني بسوء الأوضاع الداخلية ويعلّل لشعبه هذا البؤس بالعقوبات على طهران وكأنّ الوضع تحسّن بعد تحرير مليارات الدولارات في أعقاب الاتفاق النووي. هذا، قبل العودة أساساً لسبب العقوبات، والفرصة الذهبية لدى رفعها عام 2015 وسبب إعادة فرضها عام 2018. ويبقى السؤال الأساسي هل تتعرّض إيران لـ"مؤامرة" كما يروّج النظام لها أمام شعبه؟ أمّ أنّ الخمينية – الخامنئية هي من تآمرت على الشعب الإيراني؟ فعلى الصعيد السياسي، وطيلة 42 عاماً حكم الشعب الإيراني شخصان لا غيرهما: الخميني وخامنئي، مع مجموعة من رجال الدين. فباتت الجمهورية الإيرانية مثالا لنظام "الثيوقراطية"، يمارس فيها المرشد الأعلى - في زمن غيبة "المهدي المنتظر" - سلطاته الشاملة مدى الحياة وفقا للمادة الخامسة من الدستور الإيراني، ويشرف بالتالي على عمل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويراقب سير المرافق العامة مملياً إرادته العليا. عند هذا الدرك الشمولي، وفيما ـ على أساس ـ الشعب الايراني مصدر السلطات ومنبع شرعيتها، تحولت الانتخابات في إيران إلى جزء من التضليل الديماغوجي والخداع الإعلامي. أصبح البرلمان منصة تستغلها الأكثرية الحاكمة لتمجيد "الخامنئي أساس النظام" كما وصفه حسين سلامة قائد الحرس الثوري. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية "الشكلية" في 18 يونيو/حزيران المقبل، تتصاعد الحملات والتهجّمات الشخصية، ويزداد نبش فضائح الفساد والهدر والتطاول على المال العام. طالت تداعيات الحملات تلك رجالات النظام أنفسهم، وشملت أجنحة النظام حتى ضمن العائلة الواحدة. فلم يوفر الأشقاء بعضهم البعض كما جرى بين محسن رفسنجاني رئيس بلدية طهران "الناكر" لسوء إدارة البلاد والذي واجه شقيقته فائزة هاشمي رفسنجاني برد حاد وطالبها بالاعتذار لانتقادها سياسة طهران الداخلية، وذلك بعد أن صرّحت بأن "هناك أشخاصاً في إيران أكثر تنمرا من دونالد ترمب يدفعون البلاد نحو الانهيار". وتابعت: "إنهم لا يتجاهلون مطالب الناس فحسب، بل يبذلون قصارى جهدهم لإسكاتهم". إن عدم التناوب على السلطة واستمرار المرشد على رأس هرم النظام مدى العمر، قلّص مساحة الشفافية وقمع الرأي لآخر، وزجّ بأصحاب الرأي في السجون أو في الإقامة الجبرية. (مير محسن موسوي ومهدي كروبي، كما اختطاف القاضي غلام رضا منصوري في رومانيا واغتياله بعد نظره في مجموعة من القضايا السياسية وقضايا فساد ومنها قضية مهدي هاشمي رفسنجاني وشقيقته وابنته ومسؤولين آخرين فيما يسمى بحكومة "بهار" المؤيدة لأحمدي نجاد). غير أن الواقع السياسي ـ بالرغم من أهميته ـ ليس هو أكثر ما يعني الشعب الإيراني الذي يتطلع اليوم إلى معالجة استفحال وباء كورونا وتأمين اللقاح له، وتوفير السلع الضرورية لاستمرار الحياة، ومعالجة انقطاع الكهرباء المتفاقم، وتوفير الأموال للمسائل الحياتية بدلا من تخصيصها لتطوير الصواريخ وزيادة القوة البحرية وإرسال الدعم والتمويل للميليشيات خارج إيران، ووقف التسلح غير المجدي، وتنفيذ المطلوب من طهران لتخفيف العقوبات بدلا من زيادة الاستفزازات، وكيفية معالجة تسريح العمال والموظفين من الشركات والمؤسسات في القطاعين العام والخاص، ومعالجة الإرهاب الداخلي المحلي وخطاب الكراهية ضد القوميات والأقليات، ومسألة الحريات العامة وحقوق الإنسان والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ووضع حدّ للإعدامات السياسية، ومسألة القيود على الفضاء السيبراني وشبكات التواصل الاجتماعي، وإلغاء المحاكم الثورية وأحكامها السرية، ووضع حد لإيواء عناصر القاعدة وطالبان وداعش وبوكو حرام، والتعويض على ضحايا الطائرة الاوكرانية... كما يصبو هذا الشعب إلى وقف ما يسمى بـ "الصبر الاستراتيجي" وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة له. هذا ما يريده الشعب الإيراني! فمثلا لناحية مواجهة وباء كورونا، ما زال المجتمع الإيراني يتذكر الأشهر الأولى من انتشار الوباء وصور الضحايا في الطرقات، في حين انصب جام سعي النظام في القضاء على الجائحة بمسحات الزيت وشم التراب والتبارك بالأغطية والملابس والشعوذات. لذا، واجه الشعب الإيراني تصريح علي خامنئي بالسخط وبالغضب لحظره "استيراد اللقاحات الأميركية والبريطانية، وبأنه "لا يثق في لقاح كورونا المصنع في فرنسا" مراهنا على إنتاج اللقاح محليا. في حين أن إيران المعاقبة بعقوبات قصوى تتكئ على كـوبـا التي بدورها تعاني الأمرّين من العقوبات، وتفتّش عمن يمول أبحاثها لتخرج لقاحها إلى حيز الوجود. إزاء منع خامنئي اللقاحات مراهنا على تطوير كوبا للقاح المشترك الكوبي - الإيراني، لم يتورع رئيس منظمة النظام الطبي الايراني محمد رضا ظفرقندي من التأكيد على ضرورة شراء لقاح كورونا "بأسرع وقت ممكن، لأنه في حال تأخير اللقاح فسوف يفقد مفعوله. وأن إيران تحتاج إلى وقت طويل لإنتاج اللقاح المحلي حتى يكون هذا اللقاح فعالا". وعليه، دان الناشطون تصريحات خامنئي واتهموه بتجاهل الحق في الحياة وحق الإنسان في التمتع بالصحة وبالسلامة الجسدية والعقلية، في حين اعتبر بعضهم أن أوامره "فتوى بقتل الشعب الإيراني" مما يستوجب محاكمته أمام المحاكم الدولية. غير أن هذه الفتوى الخامنئية لا تفسر إلا وأنها لفتح الطريق عملياً أمام المهربين لتهريب اللقاح، وبيعه في السوق السوداء لصالح الحرس الثوري. لا سيما وأنه بعد قرار الولايات المتحدة بالإفراج عن مئة مليون دولار تبيّن أن بيع الدواء واللقاح إلى ايران لا يخضع للعقوبات الأميركية لينكشف مسؤولو البلاد، لا سيما المرشد، ويظهر أنهم من يعرقلون مسار الحصول على اللقاح. من ناحية حاجة الشعب الإيراني للكهرباء، بعد تفاقم انقطاعها المتكرر، يعلم القاصي والداني أن الحرس الثوري يستخدم الكهرباء بطاقة عالية جدا وبكميات هائلة لتشغيل مفاعلات اليورانيوم والبلوتونيوم لتخصيبهما، وهو السبب الأساسي وراء هذه الأزمة. دليل آخر على الفساد الناخر لمفاصل السلطات المركزية والمحلية، كان قيام المظاهرات من قبل التجار والمودعين على ما لحق بهم من خسائر إثر انهيار البورصة بعد انسحاب شركات ومؤسسات القطاع العام والمرافق العامة التجارية والصناعية من ردهات البورصة، واتهامهم مباشرة السلطة والحكم بسرقة أموالهم. لدرجة أن أستاذ الأخلاق في الحوزة الدينية ذاتها محمود أمجد صرح علنا أنه "سيثور على الحوزة الدينية الفاسدة وعلى أصحاب العمائم عديمي الدين والضمير". وبعد تنظيم السلطة حملات ضده واتهامه بالسذاجة والجهل والانحراف أضاف لاحقا وكتب أنه "لو فتحت عيون روح الله الخميني، ورأى قذارة أصحاب العمائم لما كان بالتأكيد قد تعرض لنظام الشاه". إن تجمعات مساهمي البورصة واحتجاجاتهم بعد فقدانهم أموالهم إلا مؤشر إضافي على سيطرة الحرس الثوري على مقاليد الثروة في إيران، فهيئات ومؤسسات الحرس تسيطر على كل المفاصل الاقتصادية والإنتاجية والبنى التحتية. فمثلا قاعدة "خاتم الانبياء" الفرع الاقتصادي للحرس تدير معظم أعمال البناء والإنشاءات، بالاضافة ألى عمليات تهريب النفط والغاز وسائر المنتجات. فمقر "خاتم الانبياء" يتلقى أكثر من عشرة ألآف مليار تومان بالسنة، وهذا الرقم يعادل ثلاثة أضعاف ميزانية بعض الوزارات الإيرانية. بينما الشعب يدرك مواطن الهدر وأماكن الفساد، يتوقع للمصارف مصيرا مشابها للبورصة بمجرد أنها رفعت نسبة الفوائد على الودائع لما فوق 12 بالمئة في ظل سكوت المصرف المركزي ـ إن لم نقل تواطؤ المصرف مع السلطة الحاكمة ـ ضد مصالح أصحاب رأس المال الوطني. يتلمس الشعب الإيراني يوميا أخبار نقل أمواله إلى الميليشيات التابعة لإيران، بيد أنه يدرك تماما بأنه بالتوازي تذهب المبالغ الضخمة إلى التسلح وإلى الصناعات العسكرية التي لم تثبت تفوقها أو ميزتها التفاضلية بوجه ما توصلت اليه الدول المتقدمة بالتكنولوجيا العالية. فأهل البلد على دراية بالبث الإعلامي المضلل، لا سيما بعد إخفاق اربعة محاولات لإطلاق صاروخ "العنقاء – سيمرغ" وفشله بوضع القمر الاصطناعي " ظفر " بمدار حول الأرض. كما يتذكر أهل إيران قلة دقة الصواريخ بعد تعرض بارجتهم" كونارك " في شهر مايو الفائت على يد "نار صديقة إيرانية" أثناء القيام بمناورة في خليج عمان ومقتل 19 جنديا وجرح 25 آخرين. أما المزحة الثقيلة فكانت زعم الحرس الثوري نشر غواصة تعمل بالديزل في مياه الخليج بمواجهة غواصات تعمل بالطاقة النووية، وزيف قدرة القوارب الصغيرة على مواجهة حاملات الطائرات وطرادات وغواصات مزودة بالتوماهوك وبأسلحة الليزر المتفوقة. وبينما يتحدث الحرس عن مفاجأة العالم بانضمام "مكران" أكبر سفينة عسكرية إلى أسطول البحرية، تظهر الصور الفوتوغرافية البسيطة أنها ناقلة نفط غير مصفحة وقد تمت إضافة مهبط على سقفها للحوامات، فأصبحت لدى الحرس الثوري حاملة هليكوبتر فيما ادعى قائد البحرية الأدميرال خانزادي "أن شواطئ ايران تشهد ملحمة في سياق الاكتفاء الذاتي وإفشال سياسة الاستكبار العالمي". أضف إلى كل ذلك، "دقة" الرادارات التي لم تستطع أن تميز بين ما هو حربي وما هو مدني فأسقطت الطائرة الأوكرانية فوق مطار مدني وقتلت 176 مدنيا جلهم عائلات بكاملها. ومن المؤكد تذكر سكان إيران ما حل بالمنشآت النووية في نطنز وفوردو وفي عنابر ومستودعات المرافئ ومحطات سكك الحديد من تفجيرات وحرائق في الحرب السيبرانية الضارية. هي مأساة شعب يدفع ثمن سيطرة النظام الخميني – الخامنئي ليعود ويسدّد فواتير الحرس الثوري ومغامراته التوسعية وتداعيات تصدير الثورة فيما أمعاء الشعب خاوية.
مشاركة :