زارني أحد الأصدقاء من خفيفي الظل، ودماثة الخلق بعد غياب دام عقدين من الزمن، بعد أن قذفت بنا عواصف المتطلبات الحياتية إلى متاهات متقلّبة، امتزجت مرّة بالفرح، ومرّة بالترح، وتارة بالسعادة، وأخرى بالحزن، وبالطبع كعادتنا بدأنا بطرح عبارات أحسبها عتب المُحبِّين، لكن الذي لفت انتباهي هو ذلك الذبول اللافت الذي ظهر به جسّد صديقي، وتلك الهيئة الرثّة التي بدا عليها، ممّا دفعني للاستفسار عن أسباب ذلك الذبول، وتلك الهيئة الرثّة، التي كنتُ أتوقع أن تكون بسبب اعتلال صحي، ومرض عضال، لكن صديقي نفى ذلك، وقال: إن صحته جيّدة -والحمد لله- لكن السبب يا صديقي يكمن في حجم وضخامة وثقل تلك المتطلبات الحياتية التي أثقلت كاهلي، وأفقدتني الكثير من المتع الحياتية -كما يقول- والتي تتنامى يومًا بعد آخر في ظل ما نعيشه من حالة تنافس غير محمود بين كثير من المؤسسات الخدمية ذات العلاقة بخدمة المواطن، وتحقيق الرفاهية له، حيث تتحيّن تلك المؤسسات الوقت المناسب لاقتناص فرائسها، فبمجرد استلام الراتب تبدأ الحسابات المُعقَّدة، كتسديد إيجار السكن لعدم وجود سكن خاص، وعدم مقدرتي على شراء قطعة أرض، ثم تسديد فواتير الهاتف بعد أن أصبح لكل فرد من أفراد الأسرة هاتف، وبالطبع تعلم يا صديقي ما تُمارسه شركات الاتّصال من أساليب للتكسُّب دون رقيب، ثم يأتي تسديد فاتورة الكهرباء المتنامية أيضًا، وبالطبع فصل التيار جاهز بعد دقائق من انتهاء المهلة، وهكذا شركات المياه التي تمارس كافة الأساليب للفوز بالقدر الأعلى من الراتب، ثم تبقى متطلبات المدارس المتنامية أيضًا كل عام، ولا تنس قضية المغالاة في أسعار المواد الاستهلاكية من غذاء وكساء ودواء في ظل القصور اللافت في متابعة التجار وقمعهم، وكذلك تفنن كثير من المستشفيات الخاصة في الحصول على ما يستطيعون من جيب المريض، وبعد هذا يا صديقي هل ترى أن هناك مساحة من الراحة والفسحة تبقى لنا لنبتهج، وتعود لأجسادنا حيويتها بعد أن تاهت خطانا بين حانا ومانا؟! وعند ذلك ألجمني صديقي عن الرد، لعلمي التام أن تلك الحالة التي يعيشها؛ هي حالة كثير من المواطنين، بل إن هنالك من هو أدنى من ذلك، لذا حاولتُ أن أبعث في نفس صديقي حالة من الأمل؛ باجترار واقع بعض الأُمم التي تعيش من حولنا، لكن الحق أنني لم أكن مقتنعًا بما أقول، كوننا -ولله الحمد- قد وهبنا الله الكثير من الثروات؛ التي تكفي ليعيش المواطن برفاهيةٍ تامة، ولكن بشرط قمع كل من يُحاول استغلال المواطن، كمثل بعض المؤسسات الخدمية التي تفتقد للحس الوطني من خلال ممارستها لمثل تلك الأساليب غير المحمودة. والله من وراء القصد.
مشاركة :