وظيفة المراجعة الداخلية هي بلا شك احدى المكونات المهمة والرئيسية في انظمة الحوكمة السليمة في المنظمات على اختلاف انواعها، ولكن الافت للانتباه تزايد الاهتمام، وخصوصاً في الاعوام الاخيرة بتفعيل وظائف المراجعة الداخلية في مؤسسات القطاع العام والاستفادة منها في إحكام الرقابة على الاموال العامة. وتجدر الاشارة هنا أن مثل هذا الاهتمام بوظائف التدقيق والمراجعة الداخلية كان حاضرا على الصعيد المحلي وخصوصاً على صعيد التشريعات الخاصة بشؤون المالية العامة، فعلى سبيل المثال وجهت المادة 31 من المرسوم بقانون رقم 31 لسنة 1978 إلى ضرورة وضع النظم الخاصة بتدقيق الحسابات العامة ومراجعتها على مستوى الجهات الحكومية، وعلى الرغم من وجود مثل هذا النص التشريعي لم تقم الجهات المختصة، وخصوصاً تلك المسؤولة عن التوجيه والنظم في وزارة المالية، بوضع مثل هذه الانظمة الرقابية حتى الوقت الراهن، وهو ما ساهم بلا شك في تدني مستويات الاهتمام بتفعيل وظائف المراجعة الداخلية لدى الجهات الحكومية، فقد دلت دراسة مسحية تم اعدادها منذ فترة ليست بالبعيدة الى أن عددا قليلا من الجهات الحكومية في الكويت لديها وحدات مستقلة للمراجعة الداخلية، بالرغم من صدور عدد من قرارات مجلس الوزراء التي دعت الجهات الحكومية الى ضرورة انشاء مثل هذه الوحدات الرقابية ضمن هياكلها التنظيمية، ولعل ما يدعو الى عودة الامل في الآونة الاخيرة صدور القانون الاخير بشأن انشاء جهاز المراقبين الماليين والذي دعت نصوصه الى ضرورة قيام الجهاز بمتابعة أنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الخاضعة لرقابته ومدى فاعليتها في ضبط التعاقدات والتعاملات المالية لهذه الجهات ورفع التوصيات حولها، وهو ما سيؤدي بطبيعة الحال الى ازدياد الاهتمام بإنشاء وحدات للمراجعة الداخلية في الجهات الحكومية. ولكن الاهتمام بإنشاء وتفعيل وحدات للمراجعة الداخلية في القطاع الحكومي يتطلب أن يتم ذلك بالشكل السليم ووفقا للاتجاهات الحديثة بهذا الخصوص، نتطرق في هذا المقال الى بعض النقاط التي قد تكون مفيدة في هذا المجال، على أمل أن تساهم في تطبيق أسلم لهذه الوظيفة الحيوية والحساسة في الجهات الحكومية المختلفة وبالتالي الى حماية أوثق للأموال العامة، خصوصاً في ضوء التوجهات الحديثة لوزارة المالية في شأن تطبيق الانظمة الحديثة (Oracle) في مجال الحسابات العامة. بداية، ينبغي معرفة أن من أهم أهداف انظمة الحوكمة المؤسسية سواء في المنظمات الخاصة أو الحكومية التأكد من أن التعاملات والاجراءات ولاسيما المالية منها، وهو محل اهتمام هذا المقال، تتم بشكل سليم ووفقا للسياسات واللوائح الموضوعة، وهو ما يتطلب أن يتم ذلك في بيئة تضمن شفافية هذه الاجراءات وامكانية الرقابة والتحقق من صحتها، وتعتبر وظيفة المراجعة الداخلية بحق الحجر الاساس لأي نظام داخلي للرقابة تقريباً. ولعل ما يميز مثل هذه الأنظمة الرقابية على صعيد الجهات الحكومية أن لها تأثير كبير في تعزيز ثقة المواطنين في سلامة استخدام هذه الجهات للاعتمادات المالية المخصصة لها بما يتوافق مع القانون واللوائح، كما انها في الوقت نفسه تؤدي الى تمكين الجمهور من المطالبة بمساءلة ومحاسبة أي أشكال للفساد المالي. و نظرا لأهمية انظمة المراجعة الداخلية كما اسلفنا، فقد تنبه المشرع الكويتي لإيراد نصوص واضحة في ما يتعلق بضرورة الاهتمام بتفعيل مثل هذه الاداة الرقابية المهمة في الجهات الحكومية المختلفة، ولعل أهم التشريعات الحديثة التي يمكن ذكرها في هذا الخصوص ما ورد في نصوص القانون رقم 23 لسنة 2015 والخاص بإنشاء جهاز المراقبين الماليين وخصوصاً المادة 12 منه والتي نصت على اختصاصات الجهاز والتي كان من ضمنها «دراسة أنظمة الرقابة الداخلية الصادرة والمنظمة للعمل، ومدى كفاءتها وكفايتها لإحكام الرقابة على العمليات المالية، ورفع التوصيات اللازمة للجهات المختصة». تلعب المراجعة الداخلية دورا مهما في انظمة الحوكمة والرقابة في مؤسسات القطاع العام، فهي تؤدي الى التأكد من أن الاموال المخصصة قد تم استخدامها بشكل قانوني كما انها تتيح الفرصة اذا ما تم تصميمها بشكل سليم الى معرفة ما اذا كان هذا الاستخدام قد تم بشكل يتسم بالمسؤولية والكفاءة المأمولة، وما اذا كان قد ادى الى تحقيق الاهداف المرجوة، كما أن التصميم الامثل لأنظمة المراجعة الداخلية يساهم بشكل كبير في تحفيز المؤسسات الحكومية نحو تنفيذ بنود الميزانية والتعاملات المالية بشكل يتسم بالشفافية وقدر ملائم من الافصاح عن المعلومات المتعلقة بهذه التعاملات، كما ينبغي ايضا التأكد من أن أنظمة المراجعة الداخلية قد تم تصميمها بشكل يتيح الرقابة المسبقة على الاجراءات المالية داخل الجهة الحكومية ذاتها كخط دفاع أول، ومن أن مثل هذه الاجراءات لا تخالف الانظمة واللوائح، وهو ما سيساهم حتما في الحد من المخالفات المالية للجهة الحكومية والمساهمة في منع حوادث الفساد المالي بأشكاله المختلفة، كما أن تصميم أنظمة المراجعة المالية ينبغي أن يضع في عين الاعتبار أهمية استغلال المعلومات الواردة بخصوص التعاملات المالية لأغراض اتخاذ القرارات الادارية في مجال التخطيط والرقابة على الاداء واتخاذ الاجراءات التصحيحية الملائمة. ولكن أهمية التطبيق الامثل لأنظمة المراجعة الداخلية تتطلب أن يتم الالتفات الى عدة نقاط مهمة ينبغي أخذها في الاعتبار عند تصميم وتفعيل مثل هذه الانظمة، لعل من أهمها ما يلي: - الاستقلالية: لا شك أن قيام وحدات المراجعة الداخلية بمهامها ومسؤولياتها الرقابية بشكل مناسب يتطلب أن يكون هناك ضمان لاستقلالية وحدات المراجعة الداخلية هذه بأكبر قدر ممكن عن الوحدات الادارية المختلفة داخل الجهة الحكومية والتي هي بطبيعة الحال خاضعة لرقابة وحدات المراجعة، فكما هو معلوم فان توفير مثل هذه الضمانة مهمة جدا لقيام العاملين في وحدات المراجعة الداخلية بمهامهم الوظيفية دون خوف من ضرر وظيفي أو وجل من انتقام مسؤول، ولعله غني عن الذكر هنا أن مثل ذلك لا يمكن ان يتسنى الا اذا كانت هذه الوحدات تابعة تنظيميا لأعلى مستوى ادارى في الجهة الحكومية، وهو ما نتمنى أن يساهم جهاز المراقبين الماليين بتعزيزه والتأكيد عليه بالتنسيق مع ديوان الخدمة المدنية، كما ينبغي التنويه الى ضرورة الاهتمام بتشكيل لجان للمراجعة تكون منبثقة من مجالس ادارة الهيئات الحكومية ذات الميزانية الملحقة أو مجالس الادارة في المؤسسات ذات الميزانية المستقلة والتي ينبغي أن تكون مسؤولة وقيّمة على وحدات المراجعة الداخلية داخل الجهة. - الكوادر الكفؤة والمؤهلة: غني عن الذكر ايضا أن قيام وحدات المراجعة الداخلية بمهامها على الوجه المطلوب يستلزم أن يتم الحرص على تزويد هذه الوحدات بالكوادر الكفؤة والمؤهلة للقيام بالمسؤوليات الدقيقة للمراجعة الداخلية باقتدار، وهذا لا يقتصر فقط على العاملين في هذه الوحدات وانما يشتمل على قيادات هذه الوحدات، فأهمية وحساسية هذه الوظيفة لا تترك مجالا للمحاباة والترضيات عند التعيين في هذه الوحدات، وهو ما ينبغي الانتباه اليه خلال الفترة القادمة خاصة من قبل جهاز المراقبين الماليين والذي اعطاه القانون قدرا كبيرا من الاختصاص في هذا الشأن وفقا لنص المادة (12) من قانون انشائه التي سلف ذكرها، وعليه فينبغي على الجهاز الاستفادة من مثل هذه الصلاحيات في وضع الضوابط اللازمة والتي من شأنها التأكد من كفاءة وتأهيل الكوادر العاملة في وحدات المراجعة الداخلية. - الموضوعية والنزاهة: أن توفير الضمانات لقيام وحدات المراجعة الداخلية لمهامها بالشكل المرجو يشتمل أيضا أن يقوم العاملون في هذه الوحدات بمهام الرقابة بشكل يتسم بالموضوعية والحيادية والمسؤولية، فلا ينبغي اهمال وضع الضوابط اللائحية (و خاصة من قبل جهاز المراقبين الماليين) والإشراقية للتأكد من قيام العاملين بوحدات المراجعة الداخلية بمسؤولياتهم الوظيفية بالشكل المأمول والتأكد من خضوع ادائهم للقدر الملائم من الرقابة والتفتيش، وهو ما يتطلب اصدار أدلة لقواعد السلوك المهني للعاملين في تلك الوحدات. - الارشاد والتوجيه الفني الملائم: ان قيام وحدات المراجعة الداخلية بمهام الرقابة في الوقت الراهن يتطلب ان يتزامن ذلك مع وضع قواعد ومعايير واضحة ومناسبة لأنظمة واجراءات المراجعة الداخلية، ووجود أدلة عمل مكتوبة وواضحة للعاملين في وحدات المراجعة الداخلية، وكذلك تزويد القائمين على هذه الوظائف بالمستوى الكافي من الارشاد والتوجيه الفني، وهو ما يتطلب التأكد من تقديم التدريب المستمر للعاملين في وحدات المراجعة الداخلية وتزويدهم بالدعم الفني اللازم متى ما استدعت الحاجة الى ذلك. - ضمانات الاطلاع: أخيرا، ينبغي أن يتم التأكيد على أن تأدية وحدات المراجعة الداخلية لمهامها لا يكمن القيام به بالشكل المناسب الا إذا تم ضمان أن يكون للعاملين في هذه الوحدات حق الاطلاع وتخويلهم بالحصول على المعلومات والبيانات اللازمة للقيام بإجراءات المراجعة، ولا شك أن ذلك لا يمكن أن يتأتى بالشكل المأمول إلا بوجود تنظيم لائحي على مستوى الجهات الحكومية يدعم مثل هذه الصلاحيات للعاملين في وحدات المراجعة الداخلية. - التعاون مع الجهات الاخرى للمراجعة: كما هو معلوم، فان الجهات الحكومية كلها تقريبا تخضع للرقابة والتدقيق المالي من قبل كل من ديوان المحاسبة وجهاز المراقبين الماليين حديث الانشاء ووريث قطاع الرقابة المالية، وبما أن هناك تشابها كبيرا في أهداف وآليات المراجعة في هذين الجهازين ووحدات المراجعة الداخلية داخل الجهات الحكومية، فانه من الاهمية بمكان الاهتمام بتفعيل أوجه التنسيق والتعاون بين هذه الاجهزة المختلفة للمراجعة على نحو يؤدي الى استفادة كل منها مما يقوم به الآخر، وهو ما سيؤدي حتما الى استخدام أكفأ للموارد ورقابة أكثر إحكاما على الاموال العامة. - كفاءة وسلاسة الاجراءات: ينبغي الاشارة الى أهمية تصميم الاجراءات الرقابية المرتبطة بوحدات المراجعة الداخلية بالكفاءة والسلاسة الممكنة حتى لا تؤدي هذه الرقابة الى تعطيل أو تأخير العمل داخل الجهة الحكومية، بل إنه ينبغي عند تصميم اجراءات المراجعة الداخلية أن يتم التأكد دوما من أن المنفعة من هذه الاجراءات (وهي إحكام الرقابة المالية) تبرر أي تأخير ممكن للعمل جراء القيام بها. * كلية العلوم الإدارية - جامعة الكويت
مشاركة :