خصوبة الألوان... معارج البصر

  • 9/7/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

شكلت الأداة في العمل الفني واحدة من المفاصل التي توقف عندها الفنان كثيراً، فذهب الكثير من الفنانين إلى انتقاء أدواتهم بعناية شديدة، منطلقين بذلك من قاعدة تؤكد أن جودة العمل تستند في جانب كبير منها على الخامات والأدوات المستخدمة، لذلك بحث الكثير من الفنانين عن الفُرش ذات الجودة العالية، والأقلام الفاخرة، إضافة إلى الورق والقماش. إلّا أن هذا لم يتوقف عند ذاك الحد وحسب، بل شكل هوساً عند بعض الفنانين، فصارت الأداة في العمل الفني واحدة من المساحات المفتوحة على طرح تقنيات وأساليب جديدة، حيث تكشفت العديد من التجارب في هذا الإطار، وظهر بعض الفنانين الذين لا يرسمون إلّا بأصابع أيديهم، فيما يستخدم آخرون فرشاً خشنة، أو قطعاً معدنية، إضافة إلى الفنانين الذين راحوا يجربون الرسم خارج الأداة وبصورة منفلتة عبر رشق الألوان بعشوائية. تكشف تلك العناية بأداة الرسم والخامات المستخدمة واحدة من العلامات البصرية التي تستوقف الفنانين كثيراً، ويجد البعض فيها مساحة جمالية لافتة يمكنها أن تغني جمالية اللوحة البصرية، وتتمثل هذه العلامة بما يطلق عليه الملمس أو إحساس الملمس، وهو عنصر ينكشف في اللوحة عند استخدام كثافات لونية أو خامات يمكنها أن تشكل سطحاً بارزاً أو ناتئاً على سطح اللوحة. أما إحساس الملمس فهو الأثر الناتج عن إضافة اللون إلى سطح القماش أو الورق وشكل حضوره، ويمكن تلمسه بصورة مستوية كان أو متعرجة، أو من خلال مستويات متفاوتة من الحدة واللين، ويمكن تلمسه كذلك عند تصوّر شكل رذاذ ماء ملوّن على سطح الورق. التفت إلى هذا التفصيل الجمالي النقاد الحديثون، خصوصاً مع تجاوز المرحلة الرومانسية والواقعية في التجربة الأوروبية، إذ راح النقاد يتوقفون عند الأثر النفسي الجمالي الذي يقدمه العمل الفني لدى رؤيته، والمنقول بصورة مباشرة عبر الرؤية، حيث صارت مستويات اللون حالة متكاملة تقرأ على صعيد الكثافة، والملمس، والانسجام، والتقابل بين الظل والنور، أو الفاتح والغامق. تظهر عناية الفنانين وتمايز تجاربهم في هذا الجانب بصورة واضحة، إذ تروي سيرة الفنان الهولندي يوهانس فيرمير (1632 - 1675) أنه كان شديد العناية بأدوات الرسم والألوان، وكان يرفض شراء الألوان المصنوعة بشكل جاهز، وإنما يقوم بعجن الألوان في مرسمه، حيث كانت الألوان عبارة عن حجارة كلسية تطحن وتخلط مع أنواع من الزيوت وتترك لتصبح جاهزة للاستخدام، وكان يستخدم الفرش المصنوعة من أجود أنواع شعر الخيل. ويعتبر الفنان فان كوخ واحداً من الفنانين الذين اعتنوا بإحساس اللون وملمسه على سطح اللوحة، إذ يكاد المتلقي لأعماله أن يتلمس خشونة اللوحة ويتلمس آثار ضربات فرشاته، حيث كان يعتني كثيراً بحجم الفرشاة، وسماكتها وقدرتها على نقل التأثير الذي يريده. الأمر ذاته ينكشف في تجارب الكثير من الفنانين العالميين والعرب، فالأداة عنصر رئيس في العمل الفني، حتى أن نظريات الفن الحديث تثير العديد من الإشكاليات حولها، خصوصاً مع ظهور ما يعرف بالفنون الرقمية، وتوظيف قدرات الحاسب الآلي في تنفيذ بعض الأعمال الفنية. ويجد الباحث في التجربة التشكيلية الإماراتية تنويعات مختلفة للعناية بالأداة، تختلف باختلاف تجارب الفنانين أنفسهم، إذ يحتكم كل منهم إلى الأدوات التي يراها تؤدي غرضه في العمل الفني، فلا يمكن المقارنة بين أدوات الفنان عبدالرحيم سالم والفنان عبد القادر الريس، فالأول يبحث عن المساحات اللونية الواسعة، وأثر الفرشاة الواضح على سطح العمل الفني، فيما الآخر يبحث عن الدقة والنقل الواقعي والحساس لتكوينات عمله. كما لا يمكن الحديث عن تلاقٍ بين أدوات الفنان د. محمد يوسف ود. نجاة مكي، فالأول يقدم تجربته في الأعمال التركيبية المستندة إلى الخامات الطبيعية كسعف النخيل وجذوع الشجر، وقضبان الحديد، فيما الثانية ترسم بالأكريلك على القماش. الاشتغال على الأداة والتنوع في توظيف قدرتها ينكشف في تجربة الفنانة فاطمة لوتاه، حيث تتحرر في الكثير من أعمالها من الفُرش، والأقلام، وغيرها، وترسم تكوينات لوحاتها بأصابع يدها، فاتحة بذلك علاقة جديدة بين اللوحة واللون ويد الفنان، وكأنها تنقل الإحساس مباشرة من دون وسيط إلى سطح اللوحة. مقابل ذلك يبدو انشغال الفنانة نجاة مكي في تجاربها الأولى على الخامات من العلامات البارزة في علاقة الفنان الإماراتي مع الخامات والأدوات في العملية الإبداعية التشكيلية، إذ قدمت سلسلة من التجارب التي ترسم فيها بأنواع من البهارات، والتوابل، مستفيدة بذلك من خصوبة الألوان الطبيعية فيها، وقدرتها على تحقيق أثر وملمس بصري مغاير عن الإحساس الذي تقدمه الألوان الكيميائية، سواء المائية منها، أو الزيتية، أو غيرها أنواع من الباستيل، التبشور،الفحم، وغيره. إلى جانب ذلك تخرج الأداة عن شكلها الوظيفي لتصبح هي التكوين في العمل الفني وهي الخامة المستخدمة في تحقيق الشكل الجمالي في اللوحة، وذلك عند الحديث عن تجربة الفنان خليل عبد الواحد، فهو واحد من الفنانين الذين ينتمون إلى مدارس الفن المعاصر الذي لا يتوقف عن التجريب في أعماله، فخلال مشاركته في ملتقى جمعية التشكيليين السنوي قدّم عبد الواحد عملاً فنياً يجمع فيه عدداً من الفرش، والأقلام، والأدوات الفنية ويلصقها على سطح اللوحة، عارضاً صورة جديدة للأداة، تجعلها ليست الوسيط في العمل الفني وإنما صلبه وتكوينه الرئيسي. وليست هذه التجربة الوحيدة في مسيرة عبدالواحد إذ سبق أن قدم عملاً فنياً يعرض فيه مرسم الفنان نفسه بكل ما يشتمل عليه من خامات، ومواد، وأثاث، ومعدات، قدمه خلال مشاركته في المعرض السنوي العام لجمعية التشكيليين، حيث نقل فيه المرسم إلى صالة العرض، فكان العمل هو غرفة المرسم نفسها.

مشاركة :