في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها، نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.13 – أبو تمام" نقّل قؤادك حيث شئتَ من الهوىما الحب إلا للحبيبِ الأولِ "روعة بيت أبي تمام لا تحول دون حق الاختلاف معه لمن يشاء، فالشاعر لا يزعم أنه يقرر حقيقة يقينية متفقا عليها. ما أكثر معارضيه الذين يؤمنون بالحب الأخير الذي يستقرون على شاطئه متمردين على الأوهام القديمة، وليسوا قليلين من يتجاوزون ذلك كله إلى الولع بالمتاح من الحب، قديمه وجديدة، دون التورط في حسابات لا يجدون فيها معنى أو جدوى.أبو تمام نفسه لا ينكر التعددية في الحب، ويقر بالقديم والجديد معا، لكنه ينتصر للحبيب الأول. مثل هذا الانحياز يعود في المقام الأول إلى الشاعر ومن يشبهونه، فهو يحن إلى ما كان، ويستعيد ذكريات يطيح بها الزمن في سريانه العظيم. لا يمكن القول إن البطولة في الفكرة للحبيبة، بل هي للأنا القديمة المندثرة التي لم يعد لها وجود، ولا أمل في الاستعادة والاستدعاء إلا بدعم من الخيال، وعندئذ تظهر الحبيبة الأولى في مقام التابع لا المتبوع.ليس من فارق جوهري ملموس بين الحبيب الأول والأطلال التي يتباكى عليها الشعراء، صادقين أو كاذبين. وإذا كان الطلل الذي لا تبقى منه إلا الأشلاء المبعثرة في المضارب المهجورة ملكية جماعية تصنع الإيقاع الاجتماعي القديم، فإن الحبيب الأول بمثابة الطلل الذاتي الذي يندثر ويتبخر، ولا يبقى منه إلا الصدى الموجع، ذلك الذي تختلط فيه العذوبة مع العذاب، بكرور السنين وفعل الشجن.
مشاركة :