المذهبيات «فرّق تسُد» - د. إبراهيم المطرودي

  • 9/10/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

وحّد الإسلام العرب، وجمع شتاتهم، وأنقذهم من العنصرية القبلية التي كانت جزءا من حياتهم، وسببا من أهم أسباب ما كانوا يعيشونه، وسعى جاهدا، هو ونبي الرحمة، أن ينأى العرب عن تلك الثقافة القبليّة، ويقتلعها من نفوسهم، غير أنها عادت من جديد، وثارت في نفوسهم مرة أخرى، وصحبها داء عنصرية أخرى، هو داء العنصرية المذهبية؛ ما صنعه الجاحظ في المقال المتقدم، وصدر في موقفه عنه، ويصدر عنه المذهبيون عامة، ويلتقون عليه، ويُجمعون على القول به، والاعتصام به، ولا يستطيعون الخروج منه، ولا التخلص من وَعْثائه، يجعلني مضطراً، وإن كان المذهبيون كافة يكرهون ذلك مني، أن أقول، وأُعيد عنوان المقال من جديد،: إن المذهبيات، وتأريخها في الإسلام، تكشف بوضوح عن أنها كانت، وأصحابها المؤمنون بها، يُفرّقون الأمة العربية والإسلامية، ويُعيدونها من جديد إلى مرحلة شبيهة بمرحلة القبيلة والقبليّة، وما فيهما من مفاهيم ومعان، تزرع الفرقة والشتات، وتسقي نبتتهما، وتجعل الهمّ الأول والأخير لكل مذهبية أن تكون لها السيادة دون غيرها، والمكانة دون سائر الناس؛ كما كانت حال القبائل العربية قبل الإسلام، حين كان الإنسان العربي يُعرف بقبيلته، وتتحدد مكانته حسبها، وليس حسب ما يأتيه من خير، ويُعين عليه من عُرف، وهذه الثقافة القبلية، وإن بقيت فينا، ودُفنت في وجداننا، فقد توارت قليلا، وضعف أثرها، حين غلبت عليها روح المذهبية، وفاقتها في جذب الناس، وحشدهم؛ حتى آلت بنا الحال، كما هو شأن داعش والمنتمين إليها، إلى أن أصبح الإنسان قادرا أن يقتل أباه وعمه وخاله، ولا يُبالي بشيء بعد ذلك، وكان في زمن هيمنة الثقافة القبلية يبذل كل جهده، وغاية عزمه، في الدفاع عنهم، والأخذ بثأرهم، وبهذا انتقل العربي، ويبدو أنه جرّ المسلمين معه، من الاحتماء بالقبيلة وثقافتها، والانتصار لهما، إلى الاحتماء بالمذهبية ودعوتها، وقتال الآخرين من أجلهما، وخرج العرب من عصر القبيلة إلى عصر المذهبية، ومن حقبة القبائل العِرقية إلى القبائل المذهبية. وحّد الإسلام العرب، وجمع شتاتهم، وأنقذهم من العنصرية القبلية التي كانت جزءا من حياتهم، وسببا من أهم أسباب ما كانوا يعيشونه، وسعى جاهدا، هو ونبي الرحمة، أن ينأى العرب عن تلك الثقافة القبليّة، ويقتلعها من نفوسهم، غير أنها عادت من جديد، وثارت في نفوسهم مرة أخرى، وصحبها داء عنصرية أخرى، هو داء العنصرية المذهبية؛ فصار العرب في العصر العباسي مثلا يتهارجون بسبب الاختلافات الدينية، ويتغالبون بسبب الأفهام المذهبية، فقام بينهم من الأدواء شيء شبيه بما جاء الدين لمحاربته، والقضاء عليه؛ غير أنه هذه المرة خرج من المنظومة التي جاءت لمحاربة الاختلاف والشتات والفرقة، وهي منظومة الدين الإسلامي ونصوصه، وصار سبب الخروج من ورطة القبيلة وثقافتها، والمعين على وحدة العرب، وتخفيف آثار القبلية فيهم، على أيدي العرب سببا في عودة تلك الثقافة العنصرية بثوب جديد، وسيمياء مختلفة، وضعف أثر الدين في جمعهم، وتوحيدهم من جديد؛ لأن كل طائفة صارت ترى الدين هو دينها، والإسلام هو إسلامها، ولم يعد في مكنة طائفة من الطوائف أن تتنازل عن تصورها، وتُعطي الحق لأختها، فعُدنا لحال شبيهة بما كانت عليه القبائل العربية، وصار قول الشاعر أبي فراس الحمداني يصدق على العرب، قبائل عِرقية وقبائل مذهبية، أيضا: ونحن أُناس لا توسطَ بيننا لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ وإذا كنّا في الماضي، وأقصد قبل الإسلام وبعده أيضا، نتفاخر بأحسابنا وأنسابنا، ونجعل الآباء، مهما كانوا، عُدّتنا، وسلاحنا في المحافل، ونتمثّل ظاهرا وباطنا بمقولة "كان أبي"؛ فنحن بعد شيوع المذهبيات الدينية، وفشو الانتماء إليها في ثقافتنا، وعدّها مَأْرِزا (ملاذا) يلجأ إليه الإنسان؛ ما زلنا على تلك المقولة، نُعيد تكريرها، وننطلق في حياتنا وَفْقها، والذي تغيّر في هذه المرحلة الجديدة أن أصبح الأب هو شيخ المذهب، وحامي الطريقة الدينية، غاب الأب النَّسبي، وحضر الأب المذهبي، وخرجنا من دائرة مغلقة إلى مثلها، وما لم نُجرِ المقارنة بين هاتين الحقبتين، ونعرضهما على محكمة العقل والتفكير؛ فلن نعي أننا ما برحنا نعيش في تلك الثقافة التي نزل الدين، وبُعث الرسول عليه الصلاة والسلام، لمحاربتها، وإنقاذ العرب، ومن ثمّ المسلمين، منها؛ فأشد بلاء كان العرب يعيشونه، وتنتقصهم الأمم بسببه، هو الفرقة القبلية، ولم يبعد بهم الوقت بعد نزول رسالة الإسلام؛ أن عادوا إلى هذه الفرقة؛ غير أنها صارت باسم المذهب الديني، وكانت قبلا باسم القبيلة. المقارنة مفهوم من أنفع المفاهيم للناس، بها يعرفون الفوارق، ويدركون أوجه الاختلاف، وبها يختارون على بصيرة، ويُصدرون آراءهم، ويُدوّنون مواقفهم، على أساس مكين، وخطة حكيمة؛ فإن شئت أن تعرف قيمة شيء، مهما كان، فقارنه بغيره، وإن أردت معرفة قيمة إنسان فقارنه بغيره، وإن أحببت معرفة قيمة كتاب فقارنه بغيره، وكذا إن أردت أن تتعرف على قيمة مذهب ما فقارنه بغيره، وإن أردت أن تعرف قيمة مرحلة ما فقارنها بغيرها. المقارنة نهج الباحثين الأحرار الذين يعنيهم أن يلمسوا أقدار الأفراد، والجماعات، والمذاهب، والمجتمعات، والدول، ويُريح عقولهم، ويُطَمْئن ضمائرهم، أن يكشفوا أوجه الاختلاف بينها، ويُوضّحوا وجوه الاتفاق؛ حتى يكونوا في مواقفهم أقرب إلى الواقع، وأكثر تعبيرا عن الحال، ويستطيعوا بعد هذا العناء كله؛ أن يميلوا إلى موقف ما، أو يُرجحوه على غيره، ويُقدّموا إلى الآخرين ما يرون فيه نصحا، ويلمسون فيه صوابا. في هذا المقال أحببت أن أتّخذ مفهوم المقارنة، وأنظر به إلى العرب وأحوالهم قديما وحديثا، قبل الإسلام وبعده، وأضع نتائج هذه المقارنة بين أيديكم، ولكم بعد هذا الرأي الأخير، والقول الفصل؛ فأنا حريص على العرب، ويجول في خاطري أن أُقارن بين حالين من أحوالهم، ومرحلتين من مراحل حياتهم؛ الأولى حال القبيلة، ومرحلة القبليّة، والثانية حال المذهبية، ومرحلة المذهبيات، وأنظر فيهما، وأحاول جاهدا أن أعرف أوجه الاختلاف، وأُبرز نقاط الاتفاق، وأتأمل بعد ذلك في أثر دين الله تعالى على الأولى، وأثره في الثانية؛ فنحن العرب اليوم بأمس الحاجة إلى معالجة أسباب الفرقة الداخلية، وعلل الشتات المذهبية والثقافية، ولن يُجدينا نفعا أن ننشغل بأعدائنا، وما يكيدون لنا به، ونحن عن كيد ثقافتنا، ومكر مذهبياتنا الدينية، غائبون، لا ندري ما صنعت، ولا نندفع إلى معرفة آثارها علينا، وما جلبته على مجتمعاتنا قديما وحديثا. وأعود أخيرا بعد هذه المقارنة القصيرة إلى القول بأنّ المذهبيات الدينية تصدق عليها المقولة المأثورة التي جعلها كثيرون منا سمة للغرب، وخصلة له، وصفة من صفات الأنظمة السياسية، وهدفا من أهدافها، وبهذا أستطيع أن أعيد عنوان المقالة في نهايتها، وأقول: إن المذهبيات الدينية تعيش، كالغرب أيضا، على مقولة: فرّق تسُد، غير أننا تركناها، وهي الحَريّة باهتمامنا، ونقدنا؛ لأنها تُمثل ديننا ورسالتنا بين العالمين، واتجهنا إلى نقد الغرب تارة، والأنظمة السياسية تارة أخرى، فكان ذلك إيذانا بعصمة كل طائفة، وعصمة دعوتها، فنشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان حشا أبوه في ذهنه، ولم يعُد كثيرون منا قادرين على إيقاف المذهبيات فوق مصاطب النقد، ودكّاته.

مشاركة :