الفارابي والمذهبيون - د. إبراهيم المطرودي

  • 9/24/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

استطاع الفيلسوف الفارابي أن يأتي بما لم يستطع المذهبيون أن يأتوا به، وتمكّن من تقديم النصيحة للأمة، وغالب الظن عندي أن دافعه إلى ذلك أنه عاش في عصر الدويلات، ورأى كيف تتغالب، ويقتل بعضها جمهور بعض، فألّف كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وضمنه شيئاً من حكمته، وقصد به إلى نصيحة من هم على شاكلة المذهبيين لا يُنظر إلى تأريخ العرب بعد الإسلام كتأريخ أمة، ومدونة أهل ملة واحدة، بل ينظر إليه كل مسلم من خلال مذهبه الذي انتمى إليه، وآمن به، وهذا ما جعل لكل طائفة تأريخاً مستقلاً، وأرشيفاً مختلفاً، تُدافع عنه، وعن رجاله، وتسعى جاهدة أن يُعرف الإسلام من خلاله، وتُؤخذ صورة رموزه منه، ولتلك النظرة المذهبية نفسها للتأريخ لا يعرف المسلمون عيوب تأريخهم، ولا يطلعون على نقائص أسلافهم، فهم حين يتحدثون عن التأريخ يعرفون الأمجاد، ويُعددون الغزوات والبطولات، ويملؤون أذهان الجمهور بها، ويتجنّبون دراسة الزلات، والتمعن في الأخطاء، ويبتعدون عن مواطن الخلل، وأماكن الداء، والعلة الأولى في هذا تقريباً أنهم ينظرون إلى التأريخ من خلال المذهب، ويتأملونه من خلال رموزهم الذين بلغوا عندهم، أو كادوا، العصمة، وحازوا الكمال من أطرافه. ليست عيوب المذهبيات مقصورة على ما تُثيره في المجتمع، وما تبعثه في نفوس الناس، من كراهية واستهزاء واستخفاف وتدابر، بل لها عيب أكبر من هذا، وأعظم منه، وهو أنها حين تسود، كما هي حال المسلمين في معظم تأريخهم، تُزوّر التأريخ، وتُحوّله من تأريخ أمة، يكثر فيها الخطأ، ويُنتظر من طبيعتها الخلل، إلى تأريخ جماعة معصومة، وطائفة كاملة، تُغذى أذهان أجيالها بكل ما يقود إلى تبجيلها، ويُسلم إلى رفع الخطأ عنها، ويدعو إلى تفسير ما جرى من عيوب، ووقع من ورطات، بتربّص الأعداء، وكيد الحاقدين. تحوّل التأريخ على أيدي المذهبيين من تأريخ أمة إلى تأريخ طائفة وقبيلة كان خطوة رئيسة في تقديسه، وتبجيل رجاله، وإظهار بطولاتهم، وإخفاء عيوبهم؛ ذلك أن المذهبيين لا يستطيعون أبداً أن يُقدّسوا تأريخ أمة متنوعاً، ويُبجّلوا رجاله كلهم، وما على المرء حين يراهم يتحدثون عن التأريخ، بطولاته وأمجاده، إلا أن يُذكّرهم بمن كان يُخالفهم في المذهب، ويُباينهم في المعتقد، وكان له دولة قائمة، وصولة حاضرة؛ حتى يُبطل خطابهم، ويُزعزع نظرتهم، ويضطرهم إلى أن يتحدثوا عن التأريخ وفق ضيق مذهبياتهم، ويتكلموا عنه من خلال قصر نظرتهم، ويسيروا في رؤيتهم للتأريخ وفق ما يؤثرونه، ويتفاخرون به، فهم يُجيدون فن المديح للطائفة والجماعة والمذهب، وليس للأمة جمعاء عندهم مكان؛ لأنها كانت ذات مذاهب مختلفة، وطرق في التفكير متباينة، وهذه نقطة تلاقٍ بين حال العرب بعد الإسلام، وحالهم قبله؛ فالعربي قبل الإسلام يرى قبيلته النموذج الأكمل، والمعيار الأسمى، وبعد الإسلام أضحى النموذج هو المذهب، والمعيار هو الطائفة. هذا التحوّل في حياة العربي، وأقصد به الانتقال من هيمنة القبيلة وثقافتها إلى هيمنة المذهب ومنظومته، لم يُتح للعربي في تلك الحقب أن يستوعب مفهوم الدولة، ويندمج في ثقافتها، وهذا ما جعله يعيش هموم الجماعة والطائفة والقبيلة، ويتقلّب فيها، ولم يستطع أن يتمثّل العصر الجديد الذي أصبح فيه عضواً في دولة، وفرداً من أفرادها، ولعل هذا من جملة الأسباب التي دعت الدولة العباسية أن تستغني عن العرب، وتستبدل بهم غيرهم؛ فمن يعيش لقبيلته، وجماعته، وأهل مذهبه، وطائفته، لا يملك مقدرة على التعايش مع هموم الدولة، وواجباتها. هيمنة هذه النظرة على المسلمين العرب، وعلى غيرهم من المسلمين، تدفعني إلى القول بأننا، نحن المسلمين، لا نملك تأريخ أمة، وإنما هي تواريخ مذاهب وطوائف وقبائل وجماعات؛ فتأريخنا بعد الإسلام لا يختلف عن تأريخنا قبله؛ فهو تأريخ مذاهب وطوائف بعد الإسلام، وتأريخ قبائل وأفخاذ قبله، وهذا وذاك يجعلان الإنسان مضطراً إلى التمحور حول هموم المذهب حيناً، وواجبات القبيلة حيناً آخر، وليس في أفقه وثقافته أن يكون للأمة، ويعمل للدولة والشعب والمجتمع، وتكون النهاية أن تُغزى الدولة بثقافة المجتمع، وتصورات أهله، قبل أن يهجم عليها الأعداء، وينال منها المتربصون، وهذا هو ما يشهد به تأريخنا، وتتحدث عنه دولنا الأولى؛ فالدولة الأموية لم تنشب أن قامت عليها الثورات، وخرج عليها الخارجون، ولو كانت الثقافة القارّة، والسياق العام، يدعوان إلى التسوية بين الناس، وعدم التفريق بينهم؛ لما جرى لها، ولأمرائها، ما عرفناه، وقصّ التأريخ لنا، ومثل خبرها جرى لدولة العباسيين التي نشأت فيها الدويلات، وتكاثرت فيها الإمارات حتى بلغت تقريباً خمس عشرة دويلة، وما كان لهذه الدويلات، وأمرائها الطامعين، أن يستقلوا عن الدولة الأم، ويُقيموا لهم إمارات على رقعة كانت للدولة؛ لولا نصرة القاعدة الشعبية للثقافة التي كانت حينذاك تقوم على عنصرين؛ الأول هو الولاء للمذهب والطائفة، والثاني هو الولاء للقبيلة والعرق، فهذان العنصران خلقا قابلية التشرذم في الدولة العربية الأولى، وكانا خير معين لهؤلاء الأمراء في تحقيق أهدافهم الاستقلالية. يتّفق المسلمون تقريباً على أن المذهبيات والنحل كانت وراء تفرّقهم وشتاتهم، ويعزون إليها جزءاً كبيراً من البلايا التي حلّت بهم، ونزلت بماضيهم وحاضرهم، وهذا الاعتراف يتضمن أمرين مهمين؛ الأول صدور الشهادة منهم على دور المذهبيات في تفريق الأمة، والثاني التأكيد على أنهم غير قادرين على التعايش مع المختلفين، وتلك هي ورطة المذهبيين الكبرى، وهي الكاشفة عن أنهم غير مستعدين للرضا عن دولة تُسوّي بين الناس، وتنتفع منهم مع اختلافهم؛ مما يجعلهم، وإن كانوا ينتقدون المذهبيات في تفريق الأمة، يقومون بهذا الدور، غير أنهم يتجاهلونه، ويتبرؤون منه. لم تستطع المذهبية أن تتعايش مع ثقافة الدولة، وهموم الأمة، وكانت بإقرار دهاقنتها، بل بإجماعهم، سبباً إلى الفرقة، وعاملاً من عواملها، وإذا لم تستطع المذهبيات أن تُقدّم الإطار لبناء الدولة، وحفظ المجتمع، وصيانة الأمة، فمن الذي يُنتظر منه أن يقوم بهذا الدور، ويعالج هذه المعضلة، ويُقدّم للمذهبيين الدواء؟ استطاع الفيلسوف الفارابي أن يأتي بما لم يستطع المذهبيون أن يأتوا به، وتمكّن من تقديم النصيحة للأمة، وغالب الظن عندي أن دافعه إلى ذلك أنه عاش في عصر الدويلات، ورأى كيف تتغالب، ويقتل بعضها جمهور بعض، فألّف كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وضمنه شيئاً من حكمته، وقصد به إلى نصيحة من هم على شاكلة المذهبيين، الذين يرون الدولة الفاضلة هي التي تتبنى المذهب، وتجعله معياراً في نظرها واختيارها، فقال: "والمدينة الفاضلة تُشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها له"، فالدولة الفاضلة هي التي يرى أهلها في اختلافهم، وتباين طرق نظرهم، وسيلة من وسائل تكاملهم، وسبباً من أسباب تكافلهم على نيل السعادة، وإدارك الكمال. وحذّر من تفكيرهم القائم على التغالب باسم المذهب، ومن طريقة نظرهم المستندة على التهارج من أجل النحلة، فجعل ما هم عليه من نهج في النظر وطريقة تفكير من آراء أهل المدن الجاهلة والضالة، وكان مما قاله، وكأنه يتحدث نيابة عنهم، وعلى لسانهم،: "منها أن قوماً (يريد من أهل المدن الجاهلة والضالة) قالوا: إنا نرى الموجودات التي نُشاهدها متضادة، وكل واحد منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كل واحد منها، إذا حصل موجوداً، أُعطي مع وجوده شيئاً يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئاً يدفع به عن ذاته فعل ضده..، فإنا نرى كثيراً من الحيوان يثب على كثير من باقيها، فيلتمس إفسادها وإبطالها، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك..، كأنه قد طُبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره، أو أن وجود كل ما سواه ضار له!..، إن هذه الحال طبيعة الموجودات، وهذه فطرتها، والتي تفعلها الأجسام الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها وإراداتها، والمرويّة برويتها، ولذلك رأوا أن المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة". يُذكّرنا هذا القول من الفارابي بهوبز، ورؤيته لعلاقة الإنسان بالإنسان، غير أن المهم هنا هو أن ما ذكره الفارابي ينطبق تماماً على المذهبيين في تأريخ الأمة، وإذا كان هؤلاء الذين ينقل رأيهم الفارابي يحتجون على التغالب والتهارج بين الناس بالحال الطبيعية للحيوان غير المختار، ويريدون من البشر أن يستنّوا بسنته، ويقتدوا بحاله؛ فإن المذهبيين يحتجون للقيام بالتغالب، ويُنظّرون للتهارج، باسم امتلاك الحقيقة الدينية، وتمثيل الدين؛ فهم يُخالفون أولئك في السبب، ويتفقون معهم في النتيجة!.

مشاركة :