الذي أنا على ثقة منه أن إشكالية الأبناء صغار السن الذين يفاجأ آباؤهم دون مقدمات بوجودهم في معسكرات الباطل والزيف والكذب والتخلف والموت والانتحار أنها إشكالية من الصعب أن يرجى برؤها؛ إذْ ليس من حلّ ولا انفراج، وكيف وقد أسقط في يد الأب المكلوم وهو ينتظر مصير فلذة كبده بإحدى هذه المهلكات: أن يغضب منه أسياده المستبدون فيعدموه، أو تستهدفه إحدى الغارات فتسوي به الأرض، أو يذهب هو طائعاً مختاراً في عملية انتحارية يتحول فيها إلى أشلاء!! غير أن هذا الوضع المأساوي المتردي ينبغي ألا يميت منابت التفكير، وألا يشل الركض خلف مباهج الحلول.. أشرت في ما سبق إلى ضرورة إعادة التكوين لبعض ممارساتنا وتعاملنا مع الشبان من أجل إخراجهم من ضيق الحياة اليومية إلى فضاء الوجود المغري المشجع، وذلك بتخفيف الرقابة والملاحظات، وبتوفير المناخ الإيجابي للاستمتاع، وبالتربيت على مواهبهم، وبإيجاد الأماكن التي يجدون فيها مندوحة من رتابة العيش وتكرار اللحظات المعاشة، ولا مناص من التنازل عن كثير من الأدوار الإشرافية المزعجة، وبخاصة مع أولئك الشبان الذين بدأوا يتخطون مرحلة المراهقة. كان لا بد من إشراك المهتمين بالمسألة التربوية، ولا مفر من استحضار التجارب، وإجراء المقارنات بين الماضي والحاضر، وتوظيف كل ذلك من أجل المحصلات الإيجابية لتفادي تلك القصص والوقائع والأحداث التي تجعلنا نفكر في واقعنا المعاش، ونتأمل بجدية فقرات حياتنا بعامة وحياة شباننا بخاصة. ولأنني من الذين يعتقدون ويؤمنون بأن القديم - وأقصد قديمنا نحن في هذه البلاد - لم يكن يشتمل على التربية بالمعنى الدقيق الشامل، وكل ما هنالك شيء من الإشراف الأبوي والتوجيهات وفي كثير من الأحيان يعاني الشاب من العنف والتسلط في ظل غياب الوعي وثقافة التربية بمعناها الحقيقي، غير أن المربي الفاضل الأديب الشاعر الأستاذ (سليمان السنيدي) يختلف مع هذه الرؤية وينحاز بشكل عاطفي واضح إلى ما يسميه (التربية القديمة)، ويقول بكل الثقة والإيمان: (رحم الله من قام بتربيتنا.. لم يعرفوا القراءة والكتابة ولكنهم أتقنوا مهارة التوجيه، ولم يدرسوا الأدب ولكنهم علمونا الأدب، ولم يدرسوا قوانين الطبيعة وعلوم الأحياء ولكنهم علمونا فن الحياة، ولم يقرأوا كتاباً واحداً عن العلاقات لكنهم علمونا حسن المعاملة واحترام الآخرين، ولم يدرسوا كثيراً من علوم الدين ولكنهم علمونا معنى الإيمان، ولم يدرسوا الإعداد والتخطيط ولكنهم علمونا بعد النظر واحترام المواقف والمبدأ والكلمة، وأفهمونا معاني الحلم والصبر والأناة رحمهم الله وجعل الجنة مثواهم.)، وعندما قلت له: كأنك تتحدث عن عالم من المثاليات أو عن نوع من الفنتازيا الاجتماعية البعيدة عن أرض الواقع، أضاف: (كان والدي الشيخ عبدالعزيز السنيدي شفاه الله وعافاه وعظم أجره يوجهنا بحلم ومراعاة، وكان من المستحيل أن يدخل إلى البيت بعد العشاء إلا بعد أن يتوكد من وجودنا، وكان يحاسبنا إذا تخلفنا عن صلاة الفجر، غير أنه مع ذلك كله لا يمكن أن ينهرنا أمام الناس! وما من شك في أن صلاح الآباء ينعكس على أخلاق الأبناء الذين سوف يحظون بالعناية الإلهية وبالتوفيق، قال الله تعالى (وكان أبوهما صالحاً.) وبرغم أن الأستاذ سليمان لا يحتفل كثيرا بمسألة التحولات وخصائص الأزمنة ولا يؤمن بمقولة (وقتنا يختلف عن وقتهم.) التي يُسَوِّغُ بها بعضنا كثيراً من الانحرافات التربوية، أمنح التحولات وخصائص الزمان والمكان أسباباً جوهرية للاختلاف والمفارقة بين الماضي والحاضر، وأدعو إلى التفكير بشكل إيجابي في أحوال الشبان وظروف حياتهم وكيف يمكن ألاّ نحرمهم من مباهج هذه الحياة التي يحيون ويعيشون فيها.
مشاركة :