ما الذي يعنيه الكلام اليوم عن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده؟ فما الذي تبقى من هذه المنظمة بعد 28 عاما على إقامة السلطة (تحت الاحتلال)؟ ثم ما الذي تفعله هذه المنظمة حقاً؟ وكيف تمثّل الفلسطينيين؟ وكيف تعبّر عن تمثيلها لهم، وعن تمثيلها لحقوقهم وتطلعاتهم الوطنية؟. معلوم أن الفلسطينيين دفعوا باهظاً كي تصبح هذه المنظمة عنواناً لهم، وبمثابة كيانهم السياسي، وإطارهم الجمعي، لكنها كفّت عن كونها كل ذلك، أقلّه منذ إقامة كيان سياسي فلسطيني في الضفة والقطاع المحتلّين، بموجب اتفاق أوسلو، المجحف والناقص والمهين (1993). وحينها لم يحصل ذلك، فقط، بسبب تراجع الأنظمة العربية عن دعم المنظمة، أو لأن إسرائيل استهدفتها، أو لأنها استنفدت أغراضها، أو لأن الشعب ما عاد راغباً فيها، إذ حصل ذلك، أيضا، وبشكل رئيس، بسبب تحويل القيادة الفلسطينية الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة، ما نجم عنه تغيرات نوعية، في مبنى ومعنى تلك الحركة، سيما في خطاباتها، وأنماط عملها، وشكل علاقاتها مع شعبها، ورؤيتها لذاتها. هكذا تحول المناضلون إلى موظفين، والمقاتلون إلى شرطة في الأجهزة الأمنية، ولم يتبق شيء اسمه الكفاح المسلح، بعد التحول نحو خيار المفاوضات، واختزال التحرير بمجرد إقامة دولة لجزء من الشعب على جزء من الأرض في جزء مكن حقوق. في الواقع، فقد كان بإمكان القيادة الحفاظ على مكانة المنظمة التمثيلية والكفاحية، ودورها في تعبئة طاقات الفلسطينيين، بالنأي بها عن الانخراط في عملية تفاوضية، مجحفة وغير متكافئة وجزئية، وترك الأمر للوفد المفاوض، المتشكّل من فلسطينيي الأرض المحتلة برئاسة حيدر عبد الشافي، لكنها لم تشأ اعتماد هـــذا الخيار، خــشية تبلور مركز قيادي آخر كانت الانتفاضة الأولى تعد به، ما يهدد مكانة قيادة المنظمة، مع أن هذه الخشية لم تكن مبررة، نظراً إلى أن الوفد ظلّ يؤكد دوماً تبعيته لها. وبالنتيجة فقط كان ثمن ذلك الخيار خسارة كاملة، وباهظة من كل النواحي، فالفلسطينيون لم يحصلوا على اتفاق أفضل، مع توقيع قيادتهم على اتفاق أوسلو (1993)، وفوق ذلك همّشت أو ضاعت المنظمة، ولم تقم الدولة المفترضة، وإذا بنا إزاء فقط كيان هجين يتمثل بسلطة تحت الاحتلال، مع علم ونشيد ومراسم وموازنات وأجهزة أمنية وتمثيل ديبلوماسي. والمعنى أن تغييب المنظمة ما كان اضطرارياً، بمقدار ما كان خياراً سياسياً تتحمل مسؤوليته القيادة التي فضلت عدم الفصل بين المنظمة والسلطة، للاعتبارات الخطأ ذاتها، أي تجميعها مركز القيادة في يدها، ولو بثمن القضية الوطنية. في المحصلة شكّل انحسار مكانة منظمة التحرير تعبيراً عن إزاحة الرواية الفلسطينية الأساسية، التي تحتل فيها قضية اللجوء، أو النكبة، مكانة مركزية، وانعكاساً لتخلّي الطبقة السياسية المهيمنة عن «حق العودة»، وإخراجها مجتمعات اللاجئين من المعادلات السياسية الفلسطينية، الأمر الذي بات يزعزع معنى الهوية الوطنية، والكيانية السياسية، والأهداف الجمعية للفلسطينيين، وحتى تضامنهم المشترك بعضهم مع بعض. وتبدّت أخطار كل ذلك أخيراً، في كيفية تعاطي القيادة الفلسطينية مع مأساة فلسطينيي سورية التي تراوحت من التنكر إلى اللامبالاة إلى إبداء بعض مظاهر العطف، ما انعكس أيضاً على ضعف تضامن مجتمعات الفلسطينيين الأخرى معهم. مثلا، لا يوجد، حتى الآن، جريدة فلسطينية مستقلة، ولا محطة إذاعة، ولا قناة تلفزيونية، ولا جامعة، ولا مركز أبحاث، علماً أن ثمة رجال أعمال فلسطينيين كثراً يملكون الإمكانيات، ولا يعوزهم الخيال، ولا الوطنية، لتقديم بعض إمكاناتهم في سبيل استنهاض أحوال شعبهم. لكن هذا الوضع الذي بات يؤثر سلباً على رؤية الفلسطينيين لأحوالهم، تم تداركه، إلى حد ما، بفضل حيوية مجتمعات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، وبفضل مبادرات قطاعات الشباب، على مختلف الأصعدة، في سعيهم لملء الفراغ الحاصل، والتعويض عن غياب منظمة التحرير، وعن لامبالاة معظم الفصائل التي تنضوي في إطارها. لذا بدلاً من الركون إلى تلك الأوضاع، على سلبياتها، جرى الاستثمار فيها، بإيجاد نوع من فضاء فلسطيني، أتاحته وسهّلته شبكات التواصل الاجتماعي، وفرضته تطلعات الشباب الفلسطينيين، وتوقهم إلى تعزيز التواصل والتفاعل بينهم، مدفوعين بحيوية قضيتهم، وبحماستهم للتعبير عن ذاتهم. ومع واقع تكلّس وفوات الكيانات السياسية السائدة يمكن الحديث عن مشكلتين تواجهان أي محاولة لتخليق فضاء عام فلسطيني جديد. الأولى تكمن في تمزّق مجتمع الفلسطينيين، وغياب الإقليم الموحد والمستقل، وخضوعهم إلى أنظمة سياسية وقانونية مختلفة. أما المشكلة الثانية فتنبع من الغياب الملحوظ للفئات الوسطى الفلسطينية التي يبدو أنها استقالت من لعب أي دور، منذ هيمنت فصائل المقاومة على الحقل السياسي الفلسطيني. أما بالنسبة إلى البرجوازية الفلسطينية، ومع تفهم صعوبة بروز دور مستقل لها، لأسباب ذاتية وموضوعية، بخاصة أنها لا تشتغل في إقليم خاص، أو في إطار تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة، فإنها معنية بمراجعة دورها، وبلورة حالات معينة تشتغل في العمل العام أو لمصلحته. قصارى القول، فإن مجتمعات الفلسطينيين، في فلسطين التاريخية، وفي بلدان اللجوء والشتات، وفي ضوء ضياع منظمة التحرير، أو تهميشها، باتت في مواجهة تحدٍ يتعلق بتصدّع هويتها الوطنية، وتآكل كيانيتها السياسية، إلى درجة بات يمكن توصيف الوضع معها كأنه ثمة شعوب فلسطينية! والمعنى أن الفلسطينيين بحاجة ماسة إلى كيان سياسي جامع يعبر عنهم ويمثلهم، ويدير كفاحهم في سبيل حقوقهم، سواء كان اسمه منظمة التحرير أو أي اسم آخر، طالما أن المنظمة استقالت أو أقيلت من دورها.
مشاركة :