منذ أن انفصل الانسان وتطور نتيجة التأثيرات البيئية والفكرية التي صاحبته، وكذلك الفضول الذي صاحبه في معرفة المجهول الذي يحيط به والذي أدى لاستخدام اطرافه، ربما كان كل ذلك أولى المراحل البدائية التي كانت الفصل ما بين البشر والانسان، رغم نقاط التلاقي الكثيرة بينهما. وبتشكل أولى المجتمعات كانت المصالح تفرض عليهم في العيش بشكل جماعي قريبين من بعضهم البعض للحفاظ على حياتهم من المجهول وقساوة الطبيعة وما تخفيه. يعني مصلحة الحفاظ على حياة الانسان كانت النقطة الهامة في تكون المجتمعات بشكلها البدئي. ولاستمرار هذه المجتمعات متماسكة كان لا بد من قواعد تنظم حياة أفرادها فيما بينهم، وهذا ما أُطلق عليه بالأخلاق فيما بعد. كانت الأخلاق هي المحدد الرئيسى في تماسك المجتمع مع بعضه على أساس مصلحة البقاء على قيد الحياة ولم يكن بالمقدرة أن يفصل ما بين المصلحة والأخلاق واستمرا مع بعضهما حتى كان له التأثير المباشر على التطور المجتمعي والذي بدوره أفضى لبناء القرى ومن بعدها المدن إلى أن وصل بالمجتمعات إلى ما هي عليه في راهننا. كانت قاعدة أساسية لا يمكن لأي أحد الخروج عنها مهما كانت قوته وصفته وعليه أن يلتزم بها بكل مشاعره وعواطفه وحتى قوته، لأن أساس وجوده ضمن هذه المجتمعات يتوقف على مدى الالتزام الصارم ما بين المصلحة والأخلاق، وهكذا استمرت المجتمعات ومن بعدها القرى والمدن لآلاف السنين في تطورها. كانت المرأة هي المحور الأساس في تشكل المجتمعات والقرى وهذا ما تخبرنا به اللقى الأثرية والكتابات المصورة على جدران الكهوف أو المعابد أو حتى الرُقُم الأثرية المكتشفة. معظمها يُخبرنا بأن المرأة كانت هي الحكيمة التي بيدها عناصر بقاء وتطور المجتمع، وهي المسؤولة عن اطعامه واكسائه وتأمين الامن والاستقرار لذاك المجتمع. وما الصور المرسومة على جدران المعابد والقطع الأثرية التي كانت تمثل المرأة على أنها كانت الإلهة إلا دليل على ذلك. انتشار أسماء المرأة التي حملت صفة الإلهة من إنانا واستيرا وعشتار وافروديت وايزيس وحتحور وحتشبسوت وغيرهن الكثير، أن كان لهن دورًا كبيرًا في تنظيم أسباب العيش والحياة في المجتمعات. كانت الملجأ الآمن لكل من يبحث عن الاستقرار والأمن في عالم تسوده فوضى جبروت الطبيعة أمام هذا الانسان، وعليه كانت معظم الإلهات الأنثى هي ملك لقوة الطبيعة من قبيل إلهة المطر والفيضان والرياح والجبال والنجوم والكواكب، بمعنى أنها كانت المكان الذي يجتمع حوله الانسان وليتحول هذا المكان بعد إضفاء المعنى عليه إلى ما يصطلح عليه الآن بالوطن. فليس أي مكان بمقدوره أن يتحول إلى وطن إلا إذا كان يحمل بين طياته قوة المعنى، وهذه القوة ربما كانت المرأة هي التي منحته للمجتمع بتواجدها وابتكارها الزراعة والتي تعتبر أساس حياة الانسان. المرأة والوطن حينما يكونان مصدرا للمعنى يتحولان إلى القوة التي يأخذ منها الانسان معنوياته وولاءه وانتماءه لهما، وهو ما كان منذ فجر التاريخ وهو السبب في ارتباط الانسان بقوة المعنى هذه وبحثه عنها في راهننا على أنها الفردوس المفقود. حينما حاولت الأنظمة السلطوية السيطرة على المجتمع والمرأة وبالتالي الوطن كان أول ما قامت به هذه الأنظمة هي القضاء على قوة المعنى تلك وترك المرأة لا حول لها ولا قوة بعد أن تم نهبها عناصر قوتها في الإنتاج والكدح والأمن والاستقرار وليحولوها إلى كائن جسدي بلا روح هدفها امتاع نزوات الرجل تحت مسمى الزواج المقدس. ولتتشكل مؤسسة العائلة التي يكون فيها الرجل هو محورها والآمر الناهي في كل شاردة وواردة تحت هالة دينية لا يمكن الخروج منها بعدما كبلوها بآلاف العادات والتقاليد لتحد من تمرد المرأة وبحثها عن ذاتها وحريتها في هذا المستنقع الذي شكلوه لها. الآن وما نعيشه منذ قرون من الزمن لم يعد أية معنى للمرأة السلعة وكذلك الوطن الذي تحول هو أيضًا لسلعة يتم التجارة بهما بمئات الشعارات الحماسية في حال الاستقرار، والذي يباع في أقرب بازارات السياسة في حال عدم الاستقرار، وكل ذلك يتم باسم المصلحة التي باتت هي أساس بقاء المجتمع ولتختفي مع مرور الزمن المبدأ الأساسي لاستمراريته وصونه إلا وهي الأخلاق. تربع المصالح على الأخلاق ربما يكون السبب الرئيس لما نعانيه الآن من حالة تشتت وتشرذم كبيرة وتضربنا كأمواج متلاطمة كل يوم لتحول المجتمع إلى مجتمع أقزام منصاعين ولاهثين وراء المصالح بدلًا من إقامة التوازن بينها وبين الأخلاق. ربما يكون سيادة هذا القانون أي تربع المصالح على الأخلاق هو السبب في انتشار اللامبالاة والاتكالية والاقصائية والاستعلائية واستجداء الأمن والغذاء من الآخر. المصالح التي تتغير وفق السياسات التي تسعى النظم الاستبدادية إلى نشرها ضمن المجتمع ولتحوله لمجتمع خامل عديم القوة كسول ينفذ ما تطلبه الأنظمة منه فقط وبالتالي خلق مجتمع نمطي، وهو هدف كل سلطوي يبحث مجتمع عبيد وجاهل ومشتت يعيش الفوضى والبحث عن المادة "المال" فقط والتي تتحول إلى هدف في حياة الانسان وبالتالي إله يعبده الجميع. وعندما تنهار مؤسسة العائلة التي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع والتي ستؤثر بشكل مباشر على انهيار الوطن ولتتحول بذلك كافة المؤسسات الأخرى إلى مجرد شكليات تبهر عيون الانسان ولكنها لا تشبع فضوله وأحلامه ورغباته وحتى انتماءه. وبهذا الشكل نعلم السبب في انهيار العائلة والتي لم يبقى لها المعنى سوى في أنها كتاب مكتوب على كل انسان وأنها نصف الدين وينظر إليها على أنه أمر ولا بد من عيشه بعيدًا عن المغزى والمعنى من ذلك، حينها لا تتبقى الروابط العائلية متينة ولا مكان فيها للأخلاق، بل الذي حلَّ مكانها هي المصالح أو المصلحة، وحينما تنتهي هذه المصالح نرى تفكك مؤسسة العائلة إلى آلاف القطع المتناثرة والتي من الصعوبة بمكان أن تلتأم ثانية. وهي نفس الأمر بالنسبة للوطن حينما يكون هناك هوة ما بين النظم المسيطرة والسلطوية وما بين المجتمع، نرى أن المجتمع مترهل ومليء بالأمراض التي تفتك به. ربما علينا وضع العربة خلف الحصان وليس العكس حتى تتم عملية التنقل نحو الأمام. وإذا ما استمرينا على وضع العربة أمام الحصان ونقوم بضرب الحصان كي يتحرك، فإننا هنا وكأننا نضرب أنفسنا أو نحفر قبرنا بأيدينا وبالتالي لا الحصان سيكون بمقدوره المسير ولا العربة ستتحرك من مكانها. أي ينبغي وضع الأخلاق في مكانها السليم وكذلك المصالح ولا يمكن الخلط بينهما وكأن لا فرق بينهم. حينها فقط يمكننا إعادة انتاج المجتمع من جديد وكذلك كافة مؤسساتها بدءًا من العائلة وحتى الدولة. وبكل تأكيد هذا منوط بدور المرأة المحوري فيه بعيدًا عن الشكليات التي نرددها والشعارات عديمة القيمة والمعنى. علينا إعطاء قوة المعنى للمجتمع وتطوره والكدح والعمل والمرأة على أنهم جميعًا أساس بناء أي مجتمع قوي. وأي شيء خلاف ذلك سنستمر في نفس دوامة سياسة "المصلحة تقتضي ذلك"، والتي ستجبرك على الجلوس مع قاتل وطنك وابيك وعائلتك تحت مسمى المصلحة.
مشاركة :