القاهرة: جمال القصاص في معرضه المقام حاليا بقاعة «الباب» بالمتحف المصري الحديث بالقاهرة، يختصر الفنان حمدي عبد الله المسافة بين البصر والبصيرة، ويحيلهما إلى أنشودة من البساطة، مغموسة بحبر الخرافة، ومفارقات المشهد الإنساني، في أشد تجلياته وجعا وألما. في هذا المعرض الذي حمل عنوان «شفرة بصرية 2»، وكذلك في أغلب أعمال الفنان، ثمة علاقة رهيفة بينه وبين الخط، حتى يبدو وكأن الخط والفنان يتصارعان من أجل حرية واحدة، هي في النهاية حرية اللوحة والفن معا. يلعب الخط على ثنائية الهدم والبناء، ويتحرك في فضاء اللوحة، ليس فقط كمقوم تشكيلي، وإنما كطاقة وجود وتحرير، تبحث عن الحرية والأمل والدفء والحب، وتحررها من وطأة عالم اشتبكت فيه الرموز والعلامات، وتعقدت الأشكال، وبهتت ملامحها وبريقها في دهاليز السياسة المضطربة. يعزز ذلك أن الفنان يوقن أن الخط هو مخزن أسرار اللوحة، هو مفتاح الشكل والتكوين، ومناورات الظل والفراغ، ينبسط، ويلتوي، وينحني، ويتعقد، مشكلا حزمة من النغمات والذبذبات البصرية. وفي مساراته المتنوعة تتداعى الذكريات والأفكار والرؤى، وتجدد نفسها في شبكة من العلاقات اللاعقلانية، لا يحكمها سوى منطق الخرافة والأسطورة، وهو منطق ما فوق اللغة والحلم، لا يبحث عن نظام ما، بل يسعى دائما إلى تفكيك الفواصل والحواجز السميكة في الزمن والأشياء. لذلك تبدو الشخوص والأشكال والرموز في اللوحات مقلوبة ومبتورة ومشوهة، تتماهى في رؤوس حيوانات وطيور ونباتات وأسماك، وكأنها تعيش في حالة من المتاهة، فرضت عليها ضرورة أن تتناهى في الصغر والكبر في البعد والقرب، في التخفي والوضوح، بحثا عن إنسانية مفتقدة، لا تتسع فيها المسافة بين القناع والوجه، أو بين الرمز ومرموزه، أو بين الأسطورة نفسها والواقع، بل يشكل كلاهما الآخر، حتى في لحظات الحضور والغياب. ومن ثم، تتباين لوحات المعرض في الحجم والفضاء، لكن تبقى لكل لوحة حريتها المستقلة، رغم المشترك الفكري والفني بينها. وهو ما يمنح المعرض مساحة رحبة من الحيوية، تكسر حيادية عين المشاهد، وتجعله ينفعل بأجواء اللوحة من الداخل. يعزز ذلك أن الفنان يستوحي رسومه ومفردات عالمه من إيقاع الحلم اليومي، بكل تعارضاته وإحباطاته الإنسانية في شتى مظاهر الحياة. فالخط في اللوحات نسق، وهو فكرة ودلالة وعلامة ورؤية، وسلاح للرفض والتمرد والسخرية، وهو معول شديد الحساسية للتبسيط والاختزال والتكثيف الفني. ويبدو لي أن الفنان في حالة معايشة دائمة لرموزه، يصطحبها معه في خطواته وانفعالاته، ويتخيل ملامحها كفعل إبداع ينمو على مسطح الورقة حتى في لحظات سكونه، في الوقت نفسه تبدو اللوحات وكأنها تستمد جزءا من وجودها من هذه المعايشة، وينعكس هذا على اللغة الرمزية التي تشكل الفضاء الأعمق لعالم الفنان، فتبدو قادرة على إثارة التساؤل والدهشة معا.
مشاركة :