القاهرة: جمال القصاص يحتفي الفنان رضا عبد الرحمن بالشخصية المصرية، ويجعلها مدار أسئلته ورؤاه الفنية، في معرضه اللافت «أسطورة» المقام حاليا بغاليري مصر بالقاهرة. تتصدر الشخصية فضاء اللوحات بأحجام كبيرة واضحة، ويبدو حضورها شامخا وصرحيا، سواء في تقاطعاتها مع حركة الواقع المعيش، أو مع حركة الزمن المنساب في مجرى أسطورة، لم يزل دفقها وسحرها يتجدد في طوايا الروح والجسد ومرايا الحياة. إنها الأسطورة الفرعونية، حجر الأساس في معظم أعمال الفنان. وتوحد طاقة الحلم في اللوحات بين كل هذه التقاطعات، ناسجة جدلية مرنة وحية، يتبادل فيها الواقع والأسطورة حقول الدلالة والأقنعة والرموز، ويتناغم فيها باقتدار ومهارة عالية فضاء الرسم والضوء واللون. يدفع الفنان أشكاله على خلفية فنية صلبة وشاسعة وغنية، يشغلها بإيقاعات خطية وانبثاقات لونية متنوعة، تنحو نحو البساطة والتلخيص، لخلق صورة أكثر قدرة على التعبير، وجعلها دوما محور الإيقاع. فالصورة هي مركز الأسطورة والواقع والحلم في اللوحات، تتماوج في ظلالها كل عناصر اللوحة، من شخوص وأشكال متجاورة ومتداخلة، تومض بشكل صريح أو طيفي، على هيئة حيوانات وطيور ونباتات وأسماك ورموز، تجعل اللوحة بمثابة حالة من الغمر الدائم في الطبيعة وتحولات الزمن والعناصر والأشياء. واللافت أن هذا الغمر يجعل اللون ينساب بحيوية فوق الصورة، مكونا غلالة شفيفة، وموحدا ما بين أبعاد التكوين، الأعلى بالأسفل، الخلف بالأمام، في تناظر موسيقى حي، ينعكس بمستويات مسطحة على الصورة نفسها، حيث تصبح اللوحة بمثابة معزوفة بصرية، تترك أثرا على عين المشاهد، يشبه الذبذبة النغمية. وتمتد روافد ذلك الأثر في جسد الأسطورة والواقع والحلم معا، كأنه لحن حي، يتخلق عبر امتداده في الزمان والمكان. وفي اللوحات، يتناسل الحلم بالأسطورة، على نحو خاص في ماهية الأنثى، مخايلا طبيعتها كرمز للخصوبة والنماء، ويحرص الفنان على عدم تهشير وتمويه ملامحها، فهي واضحة وفق تركيبة فنية وعاطفية خاصة بها، مشدودة لعالم الأسطورة الفرعونية على نحو خاص، نقطة حركتها تبدأ من ثباتها في مكانها، كما تبدو واثقة بنظرتها للعالم والأشياء من حولها. بهذا الوثوق المشمس، تتأمل الأنثى ظلها الملاصق لها كأنه طفلها الهارب من غبار الأزمنة وسطوة الصورة نفسها، وفي الوقت نفسه، تشي بحالة من الفرح الدافئ بالطبيعة، التي ترفرف عليها، في عناقيد من التوريقات النباتية والنقوش والعلامات الخطية الخاطفة كالنجوم والورود، تنسال وتتواثب على جوانب وفي عمق الصورة كأنها زخات مطر خفيف أو قطرات ندى تنزلق بعفوية من أوراق النباتات إلى فضاء اللوحة، في مشهدية رائقة تتسم بقدر كبير من الطزاجة، وتعكس معايشة حميمة للطبيعة، أظن أن الفنان استقاها من خلال مرسمه القابع في إحدى الجزر بوسط نيل القاهرة. تحضر الأنثى في اللوحات مخفورة بكل عناصر اللوحة، وببراءة الطيور صديقة الأرض، مثل «أبو قردان»، و«أبو منجل». ووسط كل هذا، يبرز الفنان حضور الصورة ويؤكد هيكلتها، سواء بالتدرج الحاذق من فضاء الدكنة إلى النور، أو بالمواءمة الشفيفة بين ألوان تبدو في طبيعتها متضادة، تتفاوت بين الأزرق البراق المشع، والبني المشرب بحمرة دافئة، والأبيض المخلوط بنثارات لونية متنوعة، والأخضر الفيروزي بتدرجاته الداكنة والفاتحة، والأصفر الذهبي، لكن هذا التضاد ينحل بشكل موح في جسد الصورة، وينساب في ملامحها، بهندسية رشيقة مضمرة، تمنح الشكل نوعا من البروز «كالريليف»، وهو ما يذكرنا بالرسوم الناتئة على جدران المقابر والمعابد الفرعونية. إضافة إلى ذلك، يضاعف رضا عبد الرحمن أحيانا من حضور الصورة، باستخدام تقنية الرسم داخل الرسم، أو الشيء وظله، ليخلق نوافذ إدراك جمالية مغايرة للصورة، ويؤكد قدرتها على التجدد من داخل نسيجها، وبمقوماتها الذاتية الخاصة، بعيدا عن مظان الإحالة إلى الكولاج، أو أي مظاهر لتشخيصية مفتعلة. وينأى حضور الأنثى الطاغي في اللوحات عن فكرة الثنائية الشائعة مع الرجل، فحضورها منفرد بذاته، لا يتقاطع مع الرجل، في الوقت نفسه لا يلغي حضوره، لكن هذا الحضور يظل دائما في منطقة الظل أو الطيف، حيث نادرا ما تحتفي اللوحات بإبراز ملامح خاصة للرجل، سواء في طريقة الرسم، أو التكوين، بل تكتفي - في الغالب الأعم - بملامح كروكية، تخفت فيها شحنة الفنان العاطفية إلى حد ما. لكنه مع ذلك يلجأ إلى رمزية الحصان كوسيط تعبيري في بعض اللوحات، بين الأنثى والرجل، في دلالة لافتة على حالة من الجموح والانطلاق تشكل مدار فعالية الكائنين معا، وتوحد بينهما. ورغم بروز التيمات الفرعونية في اللوحات، فإن أسطورة الأنثوي، أو الأنثى الأسطورة، تنداح في حقول رمزية وفنية متعددة المستويات، مما يجعلها مفتوحة بحيوية على الماضي والحاضر معا، فهي رمز للأمومة والأبوة، وفي ملامحها تتضافر صورة المرأة الصعيدية الصلبة، والمرأة الريفية بـ«عبلها» الفطري النقي، وكذلك امرأة المدينة المسكونة بهواجس الحداثة. فهكذا، لا يبحث رضا عبد الرحمن في لوحته وهو يشدها إلى أقصى طاقات التجريب، عن حلول بصرية توائم بين طاقني التجريد والتجسيد، كما أنه لا يستدعي أسطورته المشتهاة من جراب الماضي فحسب، لكنه يهضم ويتمثل كل هذا باحثا عن شكل جديد للفن والحياة معا، يفيض فيه كلاهما عن الآخر، ويمنحه معنى وجوده وحريته وشهوته الأولى.. لذلك، تتلاقح في لوحاته بحجومها الكبيرة حدوسات شتى للمعرفة الإنسانية، لا تخلو من رسائل تومض بعفوية تحت طبقتها البصرية، سواء في عربدة السكين أو في براءة الفرشاة على براح المسطح التصويري الغني، وهي رسائل لا تبحث عن إجــابــات مكتملة أو تقليدية، وإنما تحفر أسئلتهــا الشائكة على جدار اللوحة والواقع معا.
مشاركة :