الأدباء قلقون ما في ذلك شك، لا يكاد أحدهم يلقى صاحبه حتى يتحدث إليه بما يجد في نفسه من هذا الإشفاق الذي كان غامضًا أول الأمر، ثم أخذ يظهر شيئًا فشيئًا حتى أصبح واضحًا كل الوضوح، وانتهى بأصحابه إلى شيء من التشاؤم، كان العهد قد بعُدَ به حينًا من الدهر؛ فكثير من الأدباء لا يجدون الوسيلة إلى الإعراب عن ذات أنفسهم، يخطر لهم الخاطر فيملأ عليهم نفوسهم، ويستغرق تفكيرهم، ويثير فيهم الشوق إلى الكتابة، ثم يدفعهم إلى الكتابة دفعًا، فيكتبون. والأديب حين يكتب مخدوع عن نفسه دائمًا، يزعم أنه لا يحفل بالناس ولا يفكر فيهم، ولا يكتب إلا ليرضي قلبه وعقله وذوقه، وطبعه الذي لا يستطيع أن يمتنع على الإنتاج حين يُدعى إليه، وهو يُخيل إلى نفسه أن الأدب نفحات طبيعية تصدر عن أصحابها لأنها لا بد لها من الصدور، كما أن الضوء يصدر عن الشمس لأنها لا تملك إلا أن تضيء، وكما أن العبير يصدر عن الزهرة لأنها لا تملك إلا أن تنشر العبير، ولا على الشمس ولا على الزهرة ألَّا يُنتفع بما تنشران من ضوء أو شذًى. كذلك يخدع الأديب نفسه ويُخيِّل إليها، ولكنَّه لا يكاد يكتب، بل لا يكاد يأخذ في الكتابة حتى يحس الحاجة الملحة إلى أن يقرأ الناس ما يكتب. فمن طبيعة نفسه أن يكتب، ومن طبيعة نفسه أن يتصل بالناس ليقرؤوه ويشاركوه في الحس والذوق والشعور. طه حسين
مشاركة :