يقول طه حسين عن المتنبي: «كان العالم العربي في فترة ما بين الحربين، ومازال إلى اليوم يشبه على نحو يدعو إلى الدهشة ما كان عليه في عصر المتنبي. عالم لم ينس ماضيه ولم يتهيأ لنسيانه. وهو لا يستطيع أن يتعزى بفقدان ما كان له من أهمية في الماضي وعن خضوعه اليوم للسيطرة الأجنبية. وكان الأجنبي في عصر المتنبي فارسياً أو تركياً أو زنجياً، وهو اليوم يأتي من الغرب. ولكن الشعوب العربية ترى سخطها وآمالها في هذا الشعر الذي يتميز بالكبرياء الجامحة. بيد أن القيمة النهائية لشعر المتنبي لا ترجع إلى ذلك الاعتبار. فهذا الشعر، وإن كان مصنوعاً متكلفاً من حيث الشكل، يتمتع بخاصية تعد ركيزة أساسية لا بالقياس إلى الشعر العربي وحده ولكن بالقياس إلى الشعر العالمي عموماً. وذلك أن المتنبي أدخل في أدبنا التشاؤم الفلسفي. فقد صدر عنه مباشرة الشاعر العظيم أبو العلاء، كما صدر عنه بطريق غير مباشر عمر الخيام. ويضاف إليهما بداية من القرن الرابع كل من أراد من كتاب المشرق والأندلس أن يقدم تفسيراً متشائماً للحياة الإنسانية. ويمكننا بناء على ذلك أن نلتمس العذر لبعض النقاد المعاصرين إذا اشتطوا فرأوا في المتنبي سلفاً لنيتشه (في إشارة إلى العقاد). وذلك أن الفرد في أدب المتنبي يتجاوز نفسه على نحو يغري قارئه بأن يستحضر فكرة السوبر مان». ويختتم طه حسين في إحدى مقالاته باللغة الفرنسية التي نشرتها مجلة valeurs عام 1946م، تحت عنوان «مسيرة الشاعر الكبرى» بقوله: «قد يمعن البعض في الشطط حتى ليتساءلوا عما إذا لم يكن في شعر المتنبي بذور وجودية كامنة. الشيء المؤكد هو أن ذلك الشعر يدعو بشدة إلى مثل هذه المغالاة. أليس هو أول من جرؤ في أدبنا على أن يقارن الإنسان بالله تعالى عندما هتف في هوس صباه: أي محل أرتقي.. أي عظيم أتقي.. وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق.. محتقر في همتي.. كشعرة في مفرقي». قد يقال: ولكن ذلك عين الجنون. وهو صحيح ما في ذلك شك. ولكن هل يمكن لأحد أن يدعي أن فلسفة نيتشه أو فلسفة الوجوديين خلو تمام من خطرات الجنون؟».
مشاركة :