يقدّم الأديب السعودي « أحمد الدويحي» تجربته النثرية الإبداعية التى حملت إلى فضائها القص العادي والقص القصير جداً وبعْض تغريدات قصيرة النثر في كتابه الذي حمل عنوان «تفاصيل صغيرة لفضاء شاسع» الذي ضم ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول مجموعة من القصص القصيرة والخفيفة الظل ففي قصة «الرائحة» حكاية الولد الذي أرسله والده إلى السوق فلبس الثوب الجديد ومن بيْن الحقول خرج: تلطخت أكمامه بزيت محرّك الماتور، وثقبت فروع الشجر أطرافه، قطع المسافة فرحاً، كان يريد أن يرى الدراجات الهوائية وملعب المعارف الكبير، اتجه مباشرة إلى دكان، حفيظ بن دنانة، وأبلغه سلام أبيه: حاولتُ أن أمارس الذكاء والشطارة مع تاجر محرك الموتور، ناولته المبلغ، ورد على صبي قروي يتذاكى معه بخفة دم، قائلاً له بجفاء ولغة زاجرة آمرة: أقول خذ السير وانقلع، اقلب وجهك، كلمة قاسية جدًا وزاجرة أسمعها من تاجر في المدينة تبادرت في ذاكرتي قلة أدب أهل المدينة، مددت خطوتي ونظري على قطعة الكرتون التي جلست عليها لانتظار الرجل وجدها ملطخة ببراز إنسان، فسحبت ثوبي الجديد من مؤخرتي، وغامت الدنيا في عينيّ. من الملاحظ نباهة القصة وذكاء موضوعها وميله إلى السخرية إلى جانب ما حملته من قيم أوضحت الفرحة بين أخلاق أهل المدينة وأهل الريف. في قصة «تمرد» سياحة في فضاء الريف النقي، إنها الأم القروية القوية وبأسها الشديد وقدرتها على الجري حتى تعِّلم ابنها درساً لا ينساه في الطاعة وتنفيذ أوامر الأم. في قصة «الطعنة» موقف لحالة الجد الذي انتزع السكين وزحف صوب شاشة التلفزيون وهو يصرخ: أخس يا الخسيس، أخس يا الخسيس، غرس السكين في جسد المصارع القوى، وكان المصارع الآخر يتلوى من الألم، وما زال جدي يصرخ ويطعن شاشة التلفزيون. ص18 إنها قصة المفارقة في أوج قمتها وموقف الجد الذي راعه مصارع الثيران فهجم على التلفزيون يفرغ على شاشته شحْنة استفزازه وغضبه. في «ذاكرة القرى» موقف في غاية الظرف واللطف بطله زائر السوق الذي لم يجد مكاناً لربط حماره سوى نافذة بيت بطرف السوق، نهته صاحبة البيت: وخّر إنت وحمارك بعيد. -به عربٌ؟ -لا ما به عربّ. -أنا أبو زبين -أقول: اربطه بعيدًا! وقيل: إن الناس الذين وردوا إلى السوق سمعوا ضراط الحمار الذي لم يتوقف حتى فك قيده. أربع عشرة قصة من القص الجميل المتنوع المضامين ما بين واقعي وإنساني وبيئي وساخر كُتبت بأسلوب قصصي موجز خفيف الظل حمل المتعة والفائدة مشيراً إلى قاص ذكي ونابه وفنان في تعامله الفني والتقني مع مثل هذا القص الذكي والنابه. في الجزء الثاني ثلاثة نصوص مالت بفنيّة تناولها إلى فضاء قصيدة النثر التي تحكمها اللغة الفنية والقادرة على صياغة نص نثري قائم على نبض إيقاعه الداخلي. في نص «تفاصيل» نقرأ: «وعن بيتنا والجدار الأخير يحدّثني شيخنا وفي العيِّن نز رحيق التعب من سهر وفاضت ترانيمٌ من وجعٍ ملّ في قائمة انتظار وبارقة من الأماني الطويلة تلوح ويطوي المدار فياربِّ هبني من الصبر حتى أرى ما تفئ به غيمة حركتها الرياح» إلى آخر هذا النص الذي تجاوز فضاء الخاطرة ليحلق في فضاء الشعر المذاب برحيق اللغة «فاضت ترانيم من وجع مل في قائمة انتظار/ وحدث أن الغيوم وسوء اللقاح قد أرخت، وجاء زمان الحصاد» هذه الأنساق القائمة على إيقاع الموسيقى الداخلية ترتقي بالنص إلى آفاق شاعرية في منتهى الكمال وصيغ الجمال وفي نص «خديجة» وهو إسقاط تاريخي للرسول الكريم () عندما عاد من غار حراء، فنقله مبدعنا إلى فضاء قصيدة النثر وقال ص37: دثريني خديجة/ فهذا الدبيب يهزّ الشوارع/ ويأتلف الوحي في جسدي/ يزلزلها فوق أحصنة للرياح/ وبوح يعلق راياته، ويُحي الصّباح/ يُنبئ بما خبأتْه الليالي/ فشدّي اللحاف..، إذا غافلتني تباريحه وتعاويذه والطقوس. ومن هذا الفضاء الروحاني العبق بمحبة الله ورحمته، ينسج الكاتب نصه الثالث أيضا ثلاثة نصوص إبداعية قامت في فضاء قصيدة النثر وتألقت في رحاب صوفية ناجزة، صوفية المعنى المحلق في فضاءات الرحمة وصوفية اللغة التي أنجزت كل ما سبق. ...في الجزء الثالث عشر قصص تنتمي إلى جنس القصة القصيرة جداً التي تنهض على مجموعة من العناصر أهمها: •الاقتصاد اللغوي والاختزال. •الومض، بحيث تحقق اللغة من خلال مسرود القصة القصيرة جداً ومضاً سريعاً وخاطفاً •المفارقة التي لابد منها سواء في بداية القصة أو في نهايتها. •ألا تزيد عدد أسطر الـ ق.ق.ج على عشرة أسطر كحد أعلى. •أن يُحيلنا الحدث، أو الموقف إلى خاتمة إدهاشية وغير متوقعةٍ. ومن الملاحظ في القصص العشر أنها لم تخرج بعيداً عن مدار العناصر السابقة حيث حافظ معظمها على الاختزال اللغوي والومض والإيحاء عامة وبعدد أسطر القصص التي توزعت فيما لا يزيد عن سبعة أسطر. وفي قصة «بياض» القائمة على سطرين، نقرأ: «الكلمات تدكّ جدران قلبي دكاً، يغافلني هاجسٌ كلما نسبْتُ حلماً مؤجلاً، يشق صدري كشوق نهارٍ أبيض للشمس» من الملاحظ وقع الكلمات في دك جدران القلب، في تحريك هاجس الحلم المؤجل، ثم تأتي المفاجأة من ذلك الحلم الذي شق صدره كشوق نهار أبيض للشمس، وفي الجملة الأخيرة، إيقاع المشهد النفسي لصاحب الكلمات التي حركت ما سكن فيه وذكرته بالحلم المؤجل. وفي «حديث الطيْن» ص45 أربعة أسطر، نقرأ: «باسمٌ يغرد، يشدو كناي حزين، قيثارة حب، يشتد حريقها فيصفر صوتها، يصعد إلى السماء، وتكسو الغيوم السوداء جبال السروات، يعود للطين متسربلاً إلى الطّيّن، ويتجذر الحزن كشراع، يحدو في قافلة كموج ، تتطهر الأرواح ويتسّرب النغم!» قد تكون مشكلة هذه القصة فى وفرة الأفعال المضارعة التقريرية. على أن قصة «وحشة» ربما تكون أكثر قرباً من فضاء الـ ق.ق.ج وقد قامت على ثلاثة أسطر. «إذا عوت الكلاب الضالة في الليل حول داري، حتماً لن أسمع ما يؤنس وحدتي ويدفعني لأرفع عقيرتي بالغناء والشدو» ص49 ولعل من أهم ما أنجزته القصة هي المفارقة في السطر الأخير حيث أنه لم يقل أرفع صوتي، وإنما قال لأرفع عقيرتي. لا شك أن ما ضمه الكتاب جاء متوافقاً مع عنوان «تفاصيل صغيرة لفضاء شاسع» وبالفعل كل النصوص طرحت تفاصيل صغيرة إلا أنها ليست تفاصيل مهمة لازمت حياتنا وإنسانيتنا وبيئتنا وتصرفاتنا في الوقت نفسه، ولذلك خلفت هذه التفاصيل فضاءاً شاسعاً وممتداً للسؤال والتساؤل والعيش في أجواء سرد نثري جميل وحاضن لكل التفاصيل الممتدة على ذلك الفضاء الدلالي المعبر عن تجربة سردية ما تناوبت الأجناس فيها إلا لتؤكد على قدرات الفعل الكتابي على التحليق في أجواء الكتابة جميعها بغض النظر عن التصنيف الحازم والضيق الذي لا يخدم مثل هذه النصوص المفتوحة على الإبداع الفني والتقني ولا شيء سواه. *قاص وناقد مصري
مشاركة :