ماذا لو نال كل فرد في العالم حريته؟! هذا سؤال في غاية التحدي لأنه يكشف مأزق الحرية، تماماً كمأزق العقل، الذي سنظنه كاملاً ونمنحه ثقتنا المطلقة، بمعنى أن كل فرد منا يرى أن عقله أوثق من عقل غيره، ثم نكتشف دوماً أن العقل عاجز وليس كاملاً، وكأننا نخادع أنفسنا فحسب، وهنا تأتي كلمة هارفي عن الحرية لتفتح التساؤل، حيث يقول: إن كل جرعة عالية من الديمقراطية هي أيضاً جرعة عالية من تقييد الحرية، وقد تبدو هذه مفارقة متناقضة، إلا أننا سنتصورها باستدعاء كلمة ويلسون التي يقول فيها: لو نال كل فرد في العالم حريته لما بقي حر واحد على وجه البسيطة، وليس للإنسان أن يعيش دون قوانين تنظم معاشه والقوانين هذه ليست سوى قيود تقنن الحريات وتنظم تناسبها بين المتشاركين في مجاميع الحياة صغيرها وكبيرها. ولا ريب أن الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، ولكنها في الوقت ذاته هي جوهر أزمات الإنسان الذي سيبدو أنه ولد حراً، غير أنه ولد في قفص اجتماعي وثقافي سوف يصنع له القيود ما دام حياً، وسيشرع المرء باكتشاف قيوده كلما خطى خطوة في حياته، فهو كائن اجتماعي بالضرورة، ومن ثم فسيجد نفسه في منظومة علاقات تظل تلاحقه وسيظل محتاجاً لغيره، كما قال الجاحظ: إن الله لم يخلق إنساناً يقوم بكل حاجاته بنفسه، وهو قادر بغيره، ولكنه مع ذلك يقع في مشاغله مع عقله التواق لحريته زاعماً أنها حق أولي له، وهنا يبدأ شقاؤه المفاهيمي حين يرى أنه مرغم على كبح درجات من حريته ولكي يكون حراً لا بد أن يتنازل عن حريات كثيرة حسب كلمة لاكريه، ونحن نشهد ذلك في مسار حياتنا كلها حيث نمارس ترويض النفس من غلوائها أي من حريتها، ومن لم يقمع نفسه فالقانون سيقمعه، وبما أننا نعيش مع غيرنا فهذا يحتاج لمعنى العدالة في التعامل بين أطراف العلاقات، والحكم في العلاقات أخلاقي وقانوني معاً ليتحقق عدل المرء مع غيره وعدل غيره معه، وهنا سنرى ذوبان الحرية الفردية لتكون نظاماً من العلاقات المحكومة بتوازن لو تفرد فيه أحدنا بحريته فمعنى هذا أنه سيقمع غيره أو يقع عليه قمع من غيره، ولو نال كل واحد منا حريته لما بقي حر واحد على وجه البسيطة، كما هي مقولة ويلسون، وهذه حالة نسعى عادة للتغاضي عنها زاعمين أننا أحرار، ولكن كلما حاولنا ذلك وقعنا في مشكلة من نوع ما قانونية كانت أو مفاهيمية. على أن أخطر المآزق للحرية حين تمارس الحرية كمصطلح لقمع الآخرين، ولنأخذ مثالاً من أثينا وفيلسوفها الكبير أفلاطون الذي قرأ الحرية بمعناها الواقعي، فقال: إن الحرية للأقوى أي أنها معنى استبدادي مثاله أن 20% من سكان أثينا يقمعون 80% من مواطنيهم في المدينة نفسها. وهذا أول نموذج للعزل العنصري في التاريخ مسنوداً بقانون عملي وبتنظير فلسفي، وتبعاً له أصبحت العدالة للأقوى كذلك، لأن العدل والقضاء ورسم القوانين بيد المهيمن، وهذا ما لاحظه هيجل حين رأى جحافل نابليون تجتاح أوروبا بحرية مطلقة لا يحدها قانون ولا خلق، ووحدها القوة تتصارع في حروب وليس في عقول، وحرية رجل واحد مستبد وقوي في آن سمحت له بأن يقمع شعوب القارة كلها، وهذا هو خطر حرية الفرد وانتكاسه على غيره ثم انتكاس فعله عليه في النهاية. وبعد أفلاطون وهيجل يأتي راسل ليتكلم عن الحرية بصيغتها السالبة حين تجتمع مع القوة والحيوية، وتكون المعاني بيد الحر القوي مما صنع حركة الاستعمار الحديث وتحركت جيوش أوروبا لتتقاسم المعمورة وتحكمها بقانون الحرية للأقوى والعدالة للأقوى، وما زال هذا المعنى قائماً بمعنى عالمي توافق عليه العالم كله وسلم به بوجود خمس دول في مجلس الأمن هي التي تصنع قوانين تنظيم العالم، وواحدة من هذه الخمس تستطيع تحويل الباطل لحق والحق لباطل تحت عنوان (حق النقض) أو لنقل إنها تمارس باطل النقض وليس حق النقض، وهذا يتم في حفلة عالمية مشهودة على الشاشات، حسب مقولة حكم القوي كما هو المثل الشعبي. ومن ناحية مفاهيمية فإن قانون العدالة الذي لا تقوم دونه حرية ولا نظام حكم من أي نوع هو قانون يعني بالضرورة (المساواة) بين مكونات المجتمع مما ينتهي بتقييد حرية كل طرف عند الحد الذي لا يضر به غيره، وهذه معادلة لا تتم إلا بأن تتساوى درجات التنازل بين الأطراف كي لا يجور طرف على طرف، وبهذا يظل الإنسان تواقاً للحرية، لكنه لن يعيش إلا بتقييد الحرية. والخلاصة هي: لو نال كل فرد في العالم حريته لما بقي حر واحد على وجه البسيطة. وهذه معادلة أشد تعقيداً من ظاهر لفظها، فالإنسان ليس حراً، لا لأنه مقيد فحسب، ولو وقف الأمر عند هذا لسهل التعامل معه عبر سعي المرء لفك قيوده، ولكن العقدة تأتي لكون الإنسان نفسه مطبوعاً على فرض القيود على غيره، وكل قيد تفرضه على غيرك سيتحول بالضرورة إلى قيد عليك عبر وصايتك ومراقبتك لغيرك كي لا يتمرد عليك. والسجان دوماً هو سجين للمسجون ولو تحرر السجين انطلق السجان أيضاً من مرابطته، وهذه هي معادلة المأزق المفاهيمي والعملي مع الحرية التي ستظل شغفاً وقيداً في آن.
مشاركة :