من بين عديد من الأسئلة المثيرة للقلق على الساحتين الخليجية والشرق أوسطية، تطفو أزمة إيران النووية، وطريقة تعاطي إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن معها. يلاحظ المتابعون لدقائق الأزمة سلوكا أمريكيا أقل ما يوصف بأنه عجيب، لا سيما في ظل التعنت الإيراني غير المسبوق والإصرار على المضي قدما في طريق ما هو أبعد من مجرد حيازة أسلحة دمار شامل. الذين لديهم علم من كتاب يدركون أن إيران تهدف إلى بسط هيمنة تتجاوز حدودها الجغرافية، وقدراتها الديموغرافية، لتكون المكافئ الموضوعي، لقوى أخرى في المنطقة لا تغيب عن أعين القارئ المحقق والمدقق. ما الذي يدفع واشنطن – بايدن في طريق استرضاء طهران على هذا النحو الذي ينافي ويجافي كرامة العاصمة الأولى حول العالم؟ لا يزال الجواب غير واضح، بل أقرب ما يكون إلى الغائب عن الأفهام، وبخاصة في ظل الإصرار الإيراني الرسمي على رفض أي إلتزام يتعلق بالبرنامج النووي، ما لم تعلق الولايات المتحدة الأمريكية عقوباتها مسبقا. والشاهد أن إشكالية إيران لم تعد قاصرة على أزمة البرنامج النووي، وأضحت القضية شبكة من أوراق المساوامات الإيرانية، ليس آخرها الصواريخ الباليستية التي باتت مهددا كبيرا إقليميا ودوليا، ويوم أرسل الاتحاد الأوروبي، وزير الدفاع الفرنسي وقتها (الخارجية الآن)، جان إيف لودريان، إلى طهران قبل ثلاثة أعوام، للمفاوضة بشأن صواريخ الملالي، كان الرد أن إيران يمكنها في حالة واحدة فقط أن توقف أنشطتها الصاروخية، وذلك عندما تتخلى أوربا وأمريكا عن برامجهم الصاروخية. قبل أن ينصرم شهر مارس آذار الماضي، كانت صحيفة التلغراف تنشر تقريرا عن المعدات التي يجري إخفاؤها عن مفتشي الأمم المتحدة، ومنها معدات للضخ، وقطع غيار لأجهزة الطرد المركزي، وآلات تستخدم لتخصيب اليورانيوم، وتصنيع الأسلحة. عطفا على ذلك، من الواضح أن إيران قد مضت في تخزين ألياف الكربون، وذلك في مواقع سرية، يمكن استخدامها في إنتاج أجهزة طرد مركزي متطورة. ولعل إيران الرسمية، تكاد تضع إدارة بايدن في مأزق، لا سيما في ظل إصرارها على الوصول بنسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20%، وهو رقم يعتبر عتبة هامة في مسار التخصيب لأغراض عسكرية، إذا قررت السير نحو التزود بالسلاح النووي، وهو ما يناقض التصريحات المكرورة السابقة عن سلمية البرنامج النووي الإيراني. لا تبدو انتهاكات إيران فقط على صعيد ما هو محسوس وملموس في العالم المادي الظاهر للعيان، ذلك أنها تلعب دورا شديد الخطورة في إطار الحروب السيبرانية، وهو ما أدركه الأمريكيون بقوة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فقد جرت عمليات سطو على حسابات ملايين من الأمريكيين، لتأليب الديمقراطيين على الجمهوريين والعكس، ولهدف واحد هو تعميق الشرخ في جدار النسيج المجتمعي الأمريكي مرة وإلى ما شاء الله. يعن للمرء أن يتساءل: كيف يمكن لإدارة بايدن أن تأمن جانب إيران وقد أثبتت خلال السنوات الست الماضية، أي بعد الاتفاق النووي سيئ السمعة، والذي عقده باراك أوباما لغرض ما في نفسه، أنها غير صادقة في وعودها والتزاماتها، وقد استخدمت الاتفاقية كمطية للوصول إلى أهدافها، ومنها فك الأرصدة المجمدة في البنوك الأمريكية، وتسخيرها لاحقا لخدمة أغراضها المختلفة، والتي تسعى جميعها في سياق واحد، الإستعداد للمواجهة مع الدوائر الغربية. كارثة النظام الإيراني تتمثل في كونه نظاما ثيؤلوجيا، عقائديا، لا يرى في الصورة حقا مطلقا إلا له ولملاليه، وينظر للآخرين على أنهم فسطاط الشر، وأهل النار، وهي نظرة لا تتوقف عند الأمريكيين والأوربيين، بل تتجاوزهم بنوع خاص إلى جيرانها الإقليميين. لا يغيب عن ناظري الجانب الأمريكي الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط برمته، بل العالم بأكلمه، وهذا ما تبدى واضحا في محاولات تفجير تجمعات إيرانيين في باريس قبل نحو عامين، ومؤخرا انطلق الحديث بشأن محاولات إيرانية لاستهداف قاعدة عسكرية أمريكية قرب واشنطن، بالإضافة إلى محاولة اغتيال رتبة عسكرية أمريكية رفيعة المستوى، في محاولة ثأرية ردا على اغتيال قاسم سليماني. واشنطن بالقدر ذاته تدرك تمام الإدراك الدور التخريبي لوكلاء إيران في المنطقة، لا سيما الحوثي في منطقة البحر الأحمر وما يمكن لهم فعله إن أرادوا، لتعطيل حركة الملاحة، وقد جاءت حادثة قناة السويس مؤخرا لتلفت انتباه البنتاغون بنوع خاص للكارثة واردة الحدوث إن شاءت إيران الانتقام من الجميع دفعة واحدة. هل من حقيقة لابد من طرحها على مائدة النقاش بشأن إيران والإيرانيين؟ الحقيقة التي لا مناص من مواجهتها للعم سام، هي أن كل يوم تأخير في مواجهة إيران مواجهة جذرية، تكتسب طهران فيه مربعات نفوذ وقوة، وتقترب من حيازة سلاحها النووي، هذا إن لم تكن قد حصلت عليه بالفعل من عام 2003، وهو ما أشارت إليه مجلة “ناشيونال ريفيو” الأمريكية مؤخرا. إيران تسعى جاهدة لتغيير المشهد الجيواستراتيجي في منطقة الخليج العربي، وهو ما تدركه واشنطن، ويخشى المرء من أن يكون الأمر قد خرج بالفعل من بين يديها، بسبب تكرارها أخطاء مصيرية قاتلة، ومن علامات التغيير الاتفاقية التي وقعتها مع الصين لمدة 25 عاما قادما. السؤال النهائي قبل الانصراف: متى تتعلم أمريكا الدرس؟
مشاركة :